نبيل هيثم – «صدى الوطن»
هل اقتربت معركة إدلب؟
سؤال تكرّر كثيراً خلال الأشهر الماضية، لكنه عاد ليفرض نفسه مجدداً –وبشكل أكثر إلحاحاً– خلال الأيام القليلة الماضية، لا سيما بعد انتهاء الجولة الثانية عشرة من محادثات أستانا للتسوية السياسية في سوريا والتي اتضح لموسكو أنه تحول دونها عقبات جدّية، لتبدأ الأسبوع الماضي تحرّكات ميدانية في تلك المحافظة السورية ومحيطها، بعد أن باتت آخر مراكز تكدّس المجموعات المسلحة في سوريا.
لم يعد خافياً، الترابط بين ما يسمّيه السوريون والروس «معركة الحسم» في إدلب، وبين مسار أستانا، الذي ما زالت نتائجه مرهونة بجملة عوامل متصلة بالصراع الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا، وأخرى إقليمية متصلة بنقاط التقاطع والتضارب بين مصالح اللاعبين الخارجيين في سوريا.
مسار أستانا
بالرغم من أن مسار أستانا، بنظر كافة الأطراف، بمن فيهم ذلك الولايات المتحدة والأمم المتحدة، ما زال يعتبر الآلية الأكثر قدرة على التمهيد للحلول السياسية في سوريا من خلال التفاهمات الميدانية، إلا أن جولاته المتكررة، باتت تقرّبه من مسار جنيف، لجهة العجز الكبير في تجاوز الألغام المزروعة على طريق التسوية الشاملة.
على هذا الأساس، لم تخرج آخر جولات أستانا، التي انعقدت في الأسبوع الأخير من نيسان (أبريل) الماضي، بأي جديد: ناقش كبار المسؤولين في «الترويكا الضامنة» –روسيا وتركيا وإيران– مستقبل سوريا والفرص المتوافرة لإخراجها من الأزمة القائمة منذ ثمانية أعوام مع ممثلين عن الحكومة السورية والمجموعات المعارضة، واختتمت المحادثات بتقييم عام «متوسط»، ما يعني بلغة الدبلوماسية أن الأمور ما زالت تراوح مكانها.
لم يكن ذلك غريباً، ولا مفاجئاً، فالكل يدرك أن لعبة الأمم في سوريا باتت محكومة بجملة عوامل، منها ما يتصل بالصراع الأكبر على النفوذ بين موسكو وواشنطن على المستوى العالمي، والتفاعلات المتصلة بالمصالح الخاصة بكل من الروس والأتراك والإيرانيين على المستوى الإقليمي، لا بل ثمة من يرى أن المستوى الأخير، بات الآن العامل الأكثر أهمية، بالنظر إلى أن للأميركيين أجندتهم المستقلة، في حين تبقى الأجندات الروسية والتركية والإيرانية رهن العلاقات المتبادلة والمعقدة بين هذه الأطراف الثلاثة الضامنة لمسار أستانا.
على هذا المستوى الثلاثي بالذات تدور كل التحركات، ابتداءاً بالمحادثات السياسية للحل السياسي، والتي باتت متوقفة عند مسألة تشكيل اللجنة الدستورية، وصولاً إلى المستقبل الميداني لمحافظة إدلب.
تعقيدات
لم يعد خافياً أن العلاقات الروسية–التركية–الإيرانية باتت محكومة بمجموعة عوامل معقدة، يميل البعض إلى تضخيمها، تماماً كما يميل آخرون إلى التقليل من أهميتها.
أولى تلك التعقيدات تتصل بالعلاقة الملتبسة بين الروس والإيرانيين، خصوصاً مع دخول العامل الإسرائيلي بكل ثقله في الأزمة السورية خلال الفترة الماضية، وهو ما أضاف بعداً جديداً من الغموض في العلاقة بين روسيا وتل أبيب –لا سيما بعد تسليم رفاة جندي معركة السلطان يعقوب– ومحاولات بنيامين نتنياهو المستميتة لتقويض النفوذ الإيراني في سوريا، وهو ما يجعل التكهنات تسير في أكثر من اتجاه بشأن علاقة روسيا بكل من الإسرائيليين والإيرانيين، في ظل سياسة الغموض التي تحرص القيادة الروسية على اعتمادها في هذا الشأن.
مع ذلك، فإنّ ثمة إجماعاً بين المراقبين، لاسيما في روسيا، على أن النقطة المفصلية في الحل السياسي كما في الوضع الميداني الخاص بإدلب يبقى رهناً بمسار العلاقات الروسية–التركية، خاصة أن أنقرة تبدو معنية أكثر من غيرها بأيّ تغيير في الوضع القائم حالياً في هذه المحافظة السورية، التي تسعى لأن تكون حديقة خلفية لها في العمق السوري، سواء تحقق الحل السياسي أم لم يتحقق.
على هذا الأساس، جاءت تفاهمات سوتشي بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في أيلول (سبتمبر) الماضي، لتؤخر المعركة الحاسمة في إدلب، التي يؤكد الروس والسوريون أن مقوّماتها جاهزة منذ فترة، بانتظار تحديد ساعة الصفر لانطلاقتها.
تفاهمات سوتشي بحد ذاتها تقدّم إجابة معقولة من حيث منطقيتها لسبب الجمود الذي يحيط بمعركة إدلب: عشية اللقاء الآنف الذكر بين بوتين وأردوغان كانت ساعة الصفر تدنو بالفعل، لكنّ ما خرج به الرئيسان كان تسوية مقبولة، من شأنها أن تجنب المشهد السوري مزيداً من التصعيد العسكري.
لكنّ تنفيذ التفاهمات ما زال متعثراً، والكل بات يعلم أن الأتراك هم الذين يماطلون في ذلك، وهو ما تم التعبير عنه من قبل كافة المسؤولين الروس، خلال الفترة الماضية، في كلام كاد يخرج عن اللهجة الدبلوماسية المعهودة.
من هنا، يمكن فهم الرسائل التي سعى الروس إلى توجيهها للأتراك في الميدان، والتي اتخذت شكل عمليات قصف محدودة في إدلب، تزامناً مع انطلاق جولة أستانا الأخيرة.
المعركة قريبة؟
في الأوساط السورية والروسية، يدور الحديث عن «معركة قريبة»، لكنّ ذلك سيعني من الناحية الأخرى، أن الأتراك سينظرون إلى الأمر باعتباره حرباً مباشرة عليهم، وهو أمر ربما يجعل القيادة الروسية أكثر تريّثاً في الذهاب نحو الخيار العسكري، بالنظر إلى المصالح الاستراتيجية المتجاوزة للميدان السوري في العلاقات الروسية–التركية.
ولعلّ المسؤولين الروس يدركون جيداً أنّ تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء العملية المحتملة في إدلب، ولكنهم يشكون في الوقت ذاته بأن تركيا تحاول بكل قوتها إبقاء إدلب على وضعها الحالي، ما يثير لديهم هواجس كبيرة بشأن السياسة التركية عموماً وتموضعها الاستراتيجي المتأرجح حالياً بين الولايات المتحدة وروسيا.
وبالنسبة إلى تركيا، فإنّ العملية العسكرية في إدلب ستشكل تحدياً كبيراً لها على مستويات كثيرة، أهمها فقدان الهيبة، بعدما قدّم أردوغان نفسه كمدافع عمّن يسميهم «المسلمين المضطهدين» –أي المجموعات المعارضة حين يتعلق الأمر بسوريا– فإذا بدأت معركة إدلب، ولم يتمكن أردوغان من إيقافها، فلن تستطيع تركيا بعد الآن أن تدعي أنها رائدة في العالم الإسلامي.
من ناحية ثانية، فإنّ معركة إدلب تهدد تركيا بموجة جديدة من اللاجئين، تقدّر بمئات الآلاف، ممن سيحاولون بالضرورة الوصول إلى الدولة المجاورة، لأنه ببساطة لا يوجد مكان آخر ينزحون إليه، وسيؤدي ذلك إلى مشاكل جديدة للاقتصاد التركي المتأزم أصلاً.
وعلى المقلب الآخر، تدرك روسيا جيداً أن معركة إدلب ستكون أثمانها كبيرة من دون موافقة تركيا، أو على الأقل من دون تنسيق واضح معها، تجنباً للمأساة الإنسانية التي يمكن أن تحدث في حال رفض أردوغان فتح ممرات آمنة للاجئين، أو في حال قرر الذهاب أبعد في التدخل عسكرياً بشكل مباشر لمنع الجيش السوري من تحقيق إنجاز ميداني حاسم.
وعلى المستوى التكتيكي، فإنّ مخططي السياسات والمعارك في روسيا يقرون بأن سيناريو الجنوب السوري، حيث تم تجمع عدد كبير من الفارين من الحرب بالقرب من الحدود مع الأردن ، ليس وارداً مع تركيا، ففي تلك المعركة أدرك اللاجئون والمسلحون أن القوات الأردنية ستفتح النار عليهم في حال تجاوزوا الحدود، في حين يبقى من غير المحتمل أن يتخذ الأتراك مثل هذه الإجراءات الصعبة.
الأهم من كل ما سبق يبقى مرتبطاً بالخيارات الاستراتيجية الأكثر اتساعاً للدولة الروسية، لا سيما في استهدافها جذب الأتراك من الفلك الأطلسي باتجاه الفلك الروسي، وهو ما تبدّى على سبيل المثال في الصفقات الاقتصادية (التبادل التجاري، الطاقة النووية) والعسكرية (منظومة «أس–400»).
كل ذلك، بمقاييس المنطق، يجعل الحديث عن معركة ادلب أقرب إلى أن يكون محاولة ضغط من روسيا على تركيا لوقف المماطلة في تنفيذ تفاهمات سوتشي… ولكن ثمة من يؤكد أن لصبر الروس حدوداً، وأن دمشق لن تقبل باستمرار الوضع الحالي في إدلب إلى ما لا نهاية.
Leave a Reply