كمال ذبيان – «صدى الوطن»
كشفت مناقشة الموازنة داخل الحكومة اللبنانية، عمق الخلاف السياسي حول الرؤية المالية والاقتصادية بين أركان السلطة التي باتت بنظر شريحة متزايدة من اللبنانيين فاقدة للثقة، بعد أقل من عام على إعادة انتخاب زعماء الأحزاب والطوائف في الانتخابات النيابية الأخيرة، التي كرّست حكم هؤلاء لدولة قوّضوا أسسها على مدى ثلاثة عقود، حتى دفعوا موظفي القطاع العام إلى الشارع، في ظاهرة إضرابات غير مسبوقة، من غير المستبعد أن تتفاقم في الأيام والأسابيع القادمة.
مواجهة مع الشارع
الموازنة التي قدّمها وزير المال علي حسن خليل، وتضمنت تخفيضاً للعجز من 11.5 بالمئة إلى 9 بالمئة، اصطدمت فوراً بمعارضة واسعة من موظفي القطاع العام، الذين يرفضون أي تخفيض لرواتبهم أو للحوافز والمزايا التي يحصلون عليها، فخرجوا إلى الشارع بتظاهرات واعتصامات للحفاظ على المكتسبات التي حققوها منذ عقود إضافة إلى القوانين التي صدرت عن مجلس النواب، ولن يقبلوا بالتنازل عنها، مثل التعليم وبدل النقل أو الطبابة، أو المس برواتب التقاعد والتعويضات. في حين طالب موظفو المصالح الحكومية المستقلة بعدم المساس بما يحصلون عليه من رواتب أشهر إضافية تصل إلى 15 شهراً أو 16 شهراً سنوياً، وغير ذلك من عائدات على الأرباح كما في مصرف لبنان، أو من الجباية كما في مؤسسة الكهرباء والمياه والهاتف .. إلخ
قرارات موجعة
وما تعتبره الحكومة قرارات موجعة، مضطرة للجوء إليها، في ظل ما تعانيه خزينة الدولة من تراجع حاد في مواردها، وزيادة في نفقاتها، مما سبّب عجزاً متفاقماً في الموازنة لا يمكن محاصرته دون تخفيض الرواتب والمعاشات التقاعدية في إطار عملية ترشيد الإنفاق. إذ يبلغ مجموع قيمة الرواتب والتقاعد نحو 8 مليار دولار سنوياً أي ما يوازي 33 بالمئة من موازنة الدولة العاجزة عن تأمين الأموال المستحقة، مما يفرض على الحكومة أن تقوم بإجراءات هي بمثابة قرارات موجعة، طبّقتها دول أخرى مرّت بما يمرّ به لبنان من أزمة مالية.
وقد صارح وزير الخارجية جبران باسيل، الموظفين في القطاع العام، بقوله لهم، إما أن تقبلوا بخفض 15 بالمئة من رواتبكم وما تحصلون عليه من حوافز، أو لا رواتب، بسبب ما قد يلحق الخزينة من إفلاس، وهي بدأت تقترب من هذا الخطر المحدق، فكانت ردة الفعل عند المتقاعدين لاسيما من العسكريين والموظفين، التحرك في الشارع، في حين يمنع القانون موظفي القطاع العام من الإضراب، وهو ما ذكّر به رئيس الحكومة الذي رأى أن وراء هذه التحركات قد تكون «مؤامرة خارجية»، لاسيما بعد أن وصلت إلى مصرف لبنان، الذي يمسك بالسوق المالية ويحرّكها.
إضراب مصرف لبنان
أخطر التحركات الاحتجاجية التي قوبلت بها الموازنة المقترحة، كان الإضراب الذي دعا إليه مصرف لبنان، عبر نقابة الموظفين فيه، إذ إعتبر هؤلاء أنهم مؤسسة مستقلة غير مرتبطة بوزارة المال، وأن موازنة المصرف المركزي تقرّرها إدارته عبر حاكمه ونوابه، ولا تخضع لديوان المحاسبة أو رقابة إدارية، إذ تسرّبت معلومات عن توجه الحكومة في موازنتها إلى وضع مصرف لبنان، تحت وصاية وزارة المال، كما هيئات الرقابة، وهو ما أغضب حاكم المصرف رياض سلامةالذي يتبوأ منصبه منذ نحو 25 عاماً، فرأى في ما يتم تداوله، محاولة لوضع اليد على مصرف لبنان، والتدخل في رسم سياسته، وقد اتهمته أطراف سياسية بأنه يقف وراء إضراب موظفي المصرف المركزي الذي بتعطيله ثلاثة أيام أربك السوق المالية، فجرى التداول بالدولار بسعر مرتفع مقابل الليرة اللبنانية، في وقت توقّف العمل في بورصة بيروت، كما جرى وقف بعض المصارف التعامل عبر الصرّاف الآلي، وهو ما أثّر على السوق المالية والتحويلات الخارجية ورافق كل ذلك، حملة من الشائعات التي كانت تتحرّك بسرعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تذكر المواطنون مرحلة انهيار «بنك إنترا» الذي زعزع الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالقطاع المصرفي اللبناني الذي كان في أوج ازدهاره خلال ستينيات القرن الماضي بعد إقرار قانون السريّة المصرفية الذي سمح بجذب الأموال إلى لبنان، حين رأت إسرائيل آنذاك أنه من الضروري هزّ الاستقرار المالي في لبنان الذي كان يسمّى «سويسرا الشرق»، فجاء انهيار «بنك إنترا» بتوقيت صهيوني بحسب ما كشفت المعلومات لاحقاً.
اهتزاز الاستقرار المالي
وقد يكون القرار الأميركي بفرض عقوبات على «حزب الله»، والضغط على المصارف اللبنانية الالتزام به، ومنع أي خرق من «حزب الله» أو متعاونين معه، مدخلاً للضغط على لبنان مالياً واقتصادياً، بما يشبه أزمة «أنترا»، وفق قراءة خبير اقتصادي لمشاركة مصرف لبنان بالإضراب، بعد نزول العسكريين المتقاعدين إلى الشارع، مما يدفع إلى البحث عن أسباب ذلك، خاصة وأن لبنان كان يقدم نفسه على أنه آمن مالياً لجهة الاستقرار النقدي فيه، وكذلك أمنياً بما يتحلّى به من هدوء بعد أن طرد الجماعات الإرهابية من أرضه، وأن هذا الأمر تنبّه له الرئيس ميشال عون الذي دعا إلى لقاء في القصر الجمهوري جمعه مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري، فأكدوا على تمسكهم باستقرار سعر صرف الليرة، وإقرار الموازنة بإصلاحاتها، دون المساس بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، أو الرواتب.
أسباب الأزمة
أما أسباب الأزمة التي وصل إليها لبنان، لجهة الدين العام الذي ناهز 90 مليار دولار مع خدمة سنوية تقدّر بحوالي 5.5 مليار دولار لهذا العام، إضافة إلى تراكم العجز في الكهرباء الذي بلغ نحو 37 بالمئة من العجز المالي العام، فقد تسبّبت بها السياسات المتعاقبة لأركان الحكم، والذين تسلّموا لبنان بدين داخلي لم يتجاوز 900 مليون دولار عام 1992، ليبلغ بعد 27 عاماً نحو 90 مليار دولار. أما المستفيد من تراكم خدمة الدين، فهي المصارف التجارية اللبنانية، والتي تطالبها الحكومة اليوم بأن تقوم بواجباتها الوطنية، في هيكلة الدين العام بتخفيض الفوائد إلى 1 بالمئة، مما يؤثّر إيجاباً على المالية العامة للدولة بوفر نحو مليار دولار سنوياً
وناشد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، المصارف لتلبية النداء بإنقاذ مالية لبنان واقتصاده، على أن تقوم الحكومة بإجراء إصلاحات، بعد أن أظهرت سياسة الاقتراض عدم جدواها في تنمية الاقتصاد بل أدت إلى تراكم الديون وتفاقم العجز الذي يشترط «مؤتمر سيدر» تقليصه، واستخدام القروض والمنح الموعودة في تطوير مشاريع البنى التحتية وخلق الوظائف الجديدة، لاسيما في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، بما يساهم في نمو الاقتصاد مجدداً.
Leave a Reply