عماد مرمل – «صدى الوطن»
تواجه الدولة اللبنانية واحداً من أصعب التحديات الاقتصادية والمالية، الأمر الذي دفعها إلى البحث في خيارات قاسية للخروج من المأزق وتفادي خطر الانهيار. والى جانب العامل المحلي الملح الذي يفرض تصويب المسار، يعرف المعنيون أن رفد العروق اليابسة والجافة لجسم الدولة بـ«مصل» مؤتمر «سيدر» مرتبط أيضاً بتنفيذ الإصلاحات التي التزم بها لبنان، وبالتالي فإن تخفيض العجز وتحقيق الإصلاح هما ممر إلزامي لنيل الدعم الدولي، تماماً كما أنهما شرطان حتميان للنهوض الداخلي.
وتحت هذا السقف، تضمّن مشروع الموازنة الذي نوقش على طاولة الحكومة رزمة من الإجراءات الهادفة إلى تقليص النفقات وتخفيف العجز، تحت شعار التقشف، حيث تقرر تخفيض الإنفاق ما نسبته ألف مليار أو ألف و200 مليار ليرة.
وفي هذا السياق، طرقت الحكومة أبواباً عدة سعياً إلى عصر المصاريف، ومن بينها باب القطاعات الرسمية والمؤسسات العامة حيث حاولت الدفع في اتجاه تخفيض الرواتب المرتفعة أو تقليص بعض المكتسبات الوظيفية من قبيل الغاء اشهر القبض التي تتجاوز 12 شهراً، ما دفع العاملين في تلك القطاعات والمؤسسات إلى تنفيذ إضرابات واعتصامات احتجاجاً على محاولة استهداف حقوقهم.
واللافت أن الحركة الاحتجاجية شملت مجالات حساسة، كالمتقاعدين في المؤسسة العسكرية، والقضاء ومصرف لبنان والضمان الاجتماعي والمرفأ ومؤسسة الكهرباء وهيئة أوجيرو، ادارة الريجي والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى إصدار مذكرة إدارية يحذر فيها الموظفين المضربين من تبعات تصرفهم، فيما عقد الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري اجتماعاً في قصر بعبدا لمناقشة الوضع وطريقة معالجته.
ترافقت الاعتراضات النقابية والعمالية مع شائعات في الأسواق حول وضع الليرة اللبنانية، ما استدعى صدور مواقف عن عدد من المسؤولين لمواجهة البلبلة وتأكيد ثبات قيمة النقد، فيما تخوف البعض من أن تتدحرج كرة الاحتجاجات في اتجاه الفوضى.
ويعتبر المعترضون على نية تخفيض بعض الرواتب المرتفعة والمكتسبات الوظيفية أن السلطة تستسهل التصويب على حقوق الموظفين، كونه الخيار الاسهل لتقليص الانفاق، في حين أنه من غير الجائز الطلب من هؤلاء تقديم تضحيات وتنازلات إضافية، قبل أن يكون الإصلاح والتقشف قد جففا أنهر الهدر والفساد المتدفقة والمعروفة سواء في الكهرباء أو الجمارك أو مجال التهرب الضريبي أو الاملاك البحرية حيث يمكن للوفر أن يحقق فارقاً نوعياً.
وإزاء ردود الفعل الغاضبة، أكد عون وبري والحريري في مناسبات متفرقة أنه لا توجد أية نية للمس بمعاشات الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وأن أي اقتطاع للرواتب سيشمل حصراً تلك المرتفعة والنافرة، إذ لا يصح أن تكون رواتب بعض الموظفين أعلى بكثير من مخصصات رئيس الجمهورية.
ويعتبر خبير اقتصادي أنه وقبل الاقتراب من حقوق الموظفين، المكتسبة والمحمية بقوة القانون، يجب وقف الهدر وعصر النفقات في قطاعات حيوية، فإذا بقيت هناك من حاجة بعد ذلك لمساهمة الموظفين في التقشف فسيُطلب منهم أن يشاركوا في الواجب الإنقاذي، انما بعدما تكون الدولة قد استعادت صدقيتها وبرمجت تدابيرها وفق الأولويات السليمة.
ويلفت إلى أن مقاربة إصلاحية لملفات الكهرباء والنفايات والجمارك والمصارف، على سبيل المثال، تستطيع أن تصنع فارقا لحساب الخزينة، يبلغ نحو خمسة مليارات دولار، وهذا رقم أكبر بكثير مما يرتبه الخوض في مسألة معاشات الموظفين، علماً أن التهرب الجمركي وحده يُسبب هدراً مالياً بقيمة مليار و800 مليون دولار تقريباً.
ويشدد على أن المطلوب أيضاً تخفيف الاعتماد على الدولار، ما يستدعي خفض معدلات الاستيراد التي سجلت مستويات شاهقة، كون لبنان يشكل سوقاً استهلاكية تعتمد بشكل أساسي على البضائع المستوردة، مع الإشارة إلى أن المفارقة هي أن عائدات الجمارك تراجعت 650 مليون دولار تقريباً بدل أن تزيد، في دلالة واضحة على حجم الهدر والفساد.
ويشير الخبير إلى أن المصارف مدعوة للمساهمة بدورها في تحمل أعباء الانقاذ المالي والاقتصادي من خلال مبادرتها إلى تخفيض الفائدة على الدين الممنوح إلى الدولة، انطلاقاً من ضرورة اعتماد أكبر مقدار ممكن من العدالة الاجتماعية في مقاربة الحلول المفترضة للازمة التي تواجه لبنان، بحيث يجري توزيع منصف للأعباء والمسؤوليات، تبعاً لتوزع القدرات والثروات.
وهناك من يلفت إلى أن تنازل المصارف عن بعض ارباحها لحماية الاقتصاد إنما يخدم القطاع المصرفي ولا يؤذيه، لأن أي انهيار لن يرأف به أو يستثنيه من تبعاته، وإذا كان العلاج للمأزق الاقتصادي سيرتب على هذا القطاع تحمل العوارض الجانبية، فهذا لا يلغي جدوى الدواء والحاجة إلى تجرّعه.
والغريب، أن البعض يميل إلى تحميل الناس أعباء المعالجات المفترضة لأزمة هم ضحاياها ورهائنها بالدرجة الأولى، بينما يراد «تحييد» المتسببين بها والمسؤولين عن تفاقمها نتيجة تراكم السياسات المالية والاقتصادية الخاطئة عبر عقود.
ومن الواضح، أن المصارف تستفيد من امتداداتها وظلالها في مراكز القرار، حيث تجد دائماً من يحميها ويدافع عن مصالحها، إلى حد أن نفوذ المصارف يكاد يكون الأقوى في جسم الدولة. ويبدو أن الحريري وبعض السياسيين من رجال الأعمال أو الشركاء في مجالس إدارات المصارف يحاولون تقليص حصة القطاع المصرفي من كلفة الحل المفترض، أو على الأقل يتجنبون قدر الإمكان وضعها في الصفوف الأمامية لهذه المعركة الانقاذية. وهناك في محيط رئيس الحكومة من يلفت إلى أن المصارف أدت قسطها للعلى ولا يجوز تحميلها المزيد من الأعباء الثقيلة، «خصوصاً أن الضرائب المستوفاة من هذا القطاع هي الأعلى قياساً إلى القطاعات الأخرى في لبنان». ويحذر المتعاطفون مع المصارف من أن أرباحها قد تتراجع هذا العام، مشيرين إلى أنه لا يصح مطالبتها بتقبل تسديد أعباء إضافية قبل تنفيذ الإصلاحات التي التزمت بها الدولة في مؤتمر «سيدر»، خصوصاً أن التجارب الماضية لا تشجع، حيث سبق للمصارف أن فعلت ما يتوجب عليها بينما أخفقت السلطة في تطبيق الإصلاحات المطلوبة منها.
ويشير هؤلاء إلى أن الاستنتاج الرائج بأن القطاع المصرفي هو الأقوى والأغنى في لبنان، لم يعد دقيقاً، وأن هذا الانطباع أصبح لا يتطابق مع الواقع.
Leave a Reply