نصرالله بطرس صفير .. في ذمة الله
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
رحل البطريرك الماروني في لبنان نصرالله بطرس صفير، قبل عام من إعلان مئوية «دولة لبنان الكبير»، الذي أنشىء عام 1920 بقرار المفوّض الفرنسي على لبنان، الجنرال غورو، بفصله سياسياً عن سوريا، إذ وُلد صفير عشية ولادة وطنٍ ظنّ المسيحيون أنه قام من أجلهم بمسعى من البطريرك الياس الحويّك، الذي ذهب إلى فرنسا بطلب استقلال لبنان عن سوريا أمام لجنة من عصبة الأمم.
بطريرك الاستقلال الثاني
في نعي صفير (1920-2019) الذي جلس على كرسي البطريركية نحو ربع قرن، من 19 نيسان 1986 إلى حين تنحيه في 25 آذار 2011 مسلّماً الأمانة للبطريرك الحالي بشارة بطرس الراعي، أطلق عليه لقب بطريرك الاستقلال الثاني، بعد بطريرك الاستقلال الأول الحويّك، وكل منهما كان يريد فصل لبنان عن سوريا، والتقرب من الغرب الذي كان الموارنة ينظرون إليه على أنه مصدر حمايتهم، إذ أخذت فرنسا جانب الموارنة، كدولة رعاية وحماية، بعد أحداث عام 1840 التي وقعت في الجبل ضد الدروز، فنشأ نظام المتصرفية الذي قسّم الجبل سياسياً بين الدروز والموارنة عبر قائمقاميتين، فترسخ عند الموارنة بأن فرنسا هي «الأم الحنون»، في وقت كان الدروز تحت رعاية الإنكليز، وفق «بروتوكول القناصل السبعة».
أبو سمير
لم يشكّل البطريرك صفير إجماعاً حوله قط، بل كان نقطة خلاف، حتى في الساحة المسيحية نفسها، إذ اعتبره البعض منحازاً إلى «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع، الذي سيطر على التنظيم بعد «الاتفاق الثلاثي» الذي وقّعه إيلي حبيقة باسم «القوات اللبنانية» عندما كان رئيساً لها، مع كل من رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس حركة «أمل» نبيه برّي. كما أطلق البعض على البطريرك الراحل لقب «أبو سمير»، نظراً للأبوة التي مارسها على جعجع، وظهر ذلك في أثناء الحرب التي دارت بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون و«القوات اللبنانية»، إبان ما سمي «حرب الإلغاء»، إذ حضر أنصار عون إلى بكركي وأهانوا صفير بالشتائم جسديا، كرد فعل على دعمه لميليشيات القوات.
تأييد اتفاق الطائف
وكان للبطريرك مآثر وطنية، بدعمه اتفاق الطائف الذي شكل مدخلاً لوقف الحرب الأهلية، إذ سبقت إعلان الاتفاق، لقاءات واتصالات جرت بين بكركي ورئيس مجلس النواب آنذاك حسين الحسيني، الذي حمل اقتراحات إلى صفير، كما إلى الفاتيكان الذي كان له موفد بابوي في لبنان، ليبدأ الإعداد لحل سياسي للأزمة اللبنانية، بعد أن بدأت تنضج ظروفه الإقليمية والدولية.
ويعتبر الرئيس الحسيني، البطريرك صفير شريكاً فعلياً في اتفاق الطائف، وأنه شجّع النواب للسفر إلى السعودية للتباحث حول الحل الذي نال دعم الفاتيكان وأميركا وفرنسا والسعودية، وعارضه العماد عون من موقعه كرئيس حكومة عسكرية عيّنه الرئيس أمين الجميّل بعد انتهاء ولايته، فاتخذ الجنرال من قصر بعبدا مقرّاً له، اعتصم فيه، ورفض ذهاب النواب إلى الطائف. ومن ذهب منهم، لاسيما المسيحيون، منع عودتهم إلى المناطق التي كان يسيطر عليها، بعد إنجاز الاتفاق الذي رفضه عون بشدة لأنه لم ينص على انسحاب القوات السورية من لبنان. قبل أن يصبح الاتفاق أمراً واقعاً عقب هزيمة الجنرال في «حرب التحرير»، وتكريسه مسيحياً بمباركة البطريرك صفير الذي دعم الاتفاق وساهم في أن يبصر النور.
مقاطعة الانتخابات النيابية
إلا أن تأييد صفير لاتفاق الطائف ما لبث أن عكّرته الانتخابات النيابية، وفق قانون زاد من عدد النواب من 108 كما ورد في الطائف، إلى 128، وهو ما اعتبره صفير انقلاباً على الطائف، لأنه يُخضع التمثيل المسيحي لتأثير الصوت المسلم، متهماً النظام السوري الذي كُلّف دولياً وعربياً بتنفيذ اتفاق الطائف بخرقه بما يخدم مصالحها. فدعت بكركي الفعاليات المسيحية آنذاك إلى اجتماع موسع، تمّ خلاله الاتفاق على مقاطعة الانتخابات النيابية الأولى بعد الحرب الأهلية، والتي أتت بنواب بأقل من خمسين صوتاً، كما حصل مع النائبة مهى الخوري أسعد في جبيل التي فازت بـ47 صوتاً فقط،
كانت تلك المقاطعة الواسعة، أول إشارة سلبية من المرجعية المسيحية تجاه اتفاق الطائف الذي غطته تحت عنوان رفض الرعاية السورية، التي اتُهمت بالعمل لصالح «حلفائها»، بوضع قانون انتخابي يصب في صالح جنبلاط في جبل لبنان، من خلال إلغاء المحافظة كدائرة انتخابية واحدة، واعتماد الأقضية كدوائر انتخابية وفق قانون الستين، نزولاً عند طلب زعيم المختارة الذي خشي من أن يصب «الصوت المسيحي» ضدّه، لاسيما وأن مصالحة الجبل لم تكن قد تمت بعد.
المرجعية المسيحية
بعد المقاطعة المسيحية للانتخابات، التي أجريت بوجود الرئيس أمين الجميّل في فرنسا، بعد قرار من «القوات اللبنانية» بمغادرته لبنان، ثم نفي العماد عون إلى باريس، باتت الساحة المسيحية دون مرجعية سياسية، خاصة بعد دخول جعجع إلى السجن في نيسان 1994، وبذلك باتت بكركي مقصد الفعاليات المسيحية التي كانت تتخذ من البطريركية منبراً لها للتعبير عن «الإحباط المسيحي»، وهو التوصيف الذي ساد في تلك المرحلة، حيث انشغل البطريرك صفير بالتعبير عن «المظلومية المسيحية»، التي ظهرت من خلال اعتقالات وملاحقات في صفوف «القواتيين»، و«العونيين»، إضافة إلى إضعاف تمثيل المسيحيين في الحكومة أو مجلس النواب وتوليها من قبل شخصيات ليس لها حضور شعبي بين المسيحيين، هو ما ترك البطريرك الماروني، يحمّل هذه الهموم في عظاته كل أحد من بكركي، معبراً عن غياب الوجود المسيحي الفعلي في السلطة، ومقدماً نفسه كرأس حربة ضد الوصاية السورية على لبنان.
رفض الوصاية
ركّز البطريرك جهوده لاحقاً على مطلب إخراج القوات السورية من لبنان، باعتبار وجودها غير شرعي، وأن اتفاق الطائف دعا إلى انسحابها في مرحلة أولى إلى البقاع، وهو ما لم يحصل، وخاض صفير من أجل ذلك معركة سياسية وإعلامية، ضد ما سماها «الوصاية السورية» على لبنان، من خلال نظام أمني مشترك وقوى سياسية تأتمر بما يطلبه منها «الوالي السوري» في عنجر أو في الرملة البيضاء، وهما مقرّين لرئيس جهاز الأمن والاستطلاع السوري في لبنان العميد غازي كنعان، ثم العميد رستم غزالي لاحقاً، وقد كانت لهما سطوة على مختلف القوى السياسية والحزبية، فيما لم يترك صفير مناسبة إلا وحرّض ضدّ هذه الوصاية، وقد ذهب إلى عواصم القرار مراراً، لاسيما واشنطن وباريس، للعمل على إخراج القوات السورية من لبنان، كما ساهم في تنظيم مؤتمرات في المغتربات لتشكيل «لوبي لبناني» ضد الوجود السوري.
نزع سلاح المقاومة
وما أن إنسحبت إسرائيل من جنوب لبنان في 25 أيار 2000، حتى رأى صفير أنها مناسبة، ليطالب بخروج القوات السورية، لأنه لم يعد لوجودها أي مبرّر، إذ كان يتمّ الربط بين وجود الجيش السوري كقوة مساندة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، والتي بعد أن تحرّر الجنوب لا ضرورة لوجودها، كما لسلاحها، بحسب البطريرك الذي لم يعترف بالمقاومة، وكان يطالبها بالتخلي عن سلاحها، وتسليمه للجيش اللبناني.
وإن ساير صفير في بعض الأحيان المقاومة بعد التنكر لدورها وتضحياتها، لكنه في المقابل كان يرسل رقيماً بطريركياً ليتلى على عقل هاشم أحد أبرز عملاء الاحتلال الإسرائيلي، ونائب أنطوان لحد قائد ما يسمى «جيش لبنان الجنوبي» الذي كان يأتمر بأوامر الكيان الصهيوني.
ومن المواقف التي تؤخذ على صفير أيضاً أنه لم يلاقِ البابا يوحنا بولس الثاني في سوريا عندما زارها عام 1997.
وفي عام 2000، أسّس البطريرك «لقاء قرنة شهوان»، كذراع سياسية لبكركي يعمل على تنفيذ نداء المطارنة الموارنة بإخراج القوات السورية من لبنان، فأيده جنبلاط، فكانت مصالحة الجبل عام 2001، والتي أسست لجبهة داخلية ضد سوريا انضم إليها لاحقاً الرئيس رفيق الحريري كمعارض للتمديد لرئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود على وقع تغيرات دولية وإقليمية تستهدف سوريا في إطار مشروع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن للشرق الأوسط الجديد.
Leave a Reply