صبحي غندور
جمعت الرسالات السماوية كلّها بين الدعوة لعبادة الخالق من خلال فرائض تختلف في تفاصيلها، وبين جملة من القيَم والمبادئ المشتركة التي تتعلق بدور الإنسان في الحياة. ولقد لخّص القرآن الكريم هاتين المسألتين في تكرار الربط ما بين «الإيمان» و«العمل الصالح». وإذا كان التعبير عن «الإيمان» يتحقّق من خلال ممارسة شعائر العبادة، فإنّ مجالات«العمل الصالح» هي المجتمع نفسه والعلاقة مع الإنسان الآخر أيّاً كان لونه وجنسه ومعتقده، بل ومع الطبيعة أيضاً. وكم هو سهل التحقّق من ممارسة العبادات أو عدمها بينما من الصعب حصر ما يقوم به الإنسان من «عمل صالح» أو مدى التزامه بالقيَم الدينية عموماً.
أذكر في فترة وجودي بالعاصمة اللبنانية بيروت خلال الحرب الأهلية، شخصاً كان يملك متجراً مجاوراً لمكان عملي، وكنت أراه يقوم بفريضة الصلاة أمام متجره أحياناً، ويحبّ أن يناديه الآخرون بلقب «الحاج» على اعتبار أنّه أدّى فريضة الحجّ أكثر من مرّة (بالمناسبة، ومع تقديري أنّ الحجّ فريضة العمر وأنّ الحاجّ يتكبّد المشاقّ الكثيرة لتحقيقها– فإني لا أدري لِمَ يتداول الناس لقب «الحاج» وكأنّ ذلك مشابه لألقاب مهنية كالطبيب أو المحامي أو المهندس، علماً بأنّ الناس لا يدعون إنساناً آخراً بلقب «المصلّي» أو «المتزكّي» وغيرها من فرائض العبادة)، وقد تبيّن فيما بعد أنّ هذا الشخص التاجر كان من كبار تجّار المخدرات في بيروت، وأنّه كان يحاول استخدام المسائل الدينية الشكلية لتغطية عمله المسيء للناس وللمجتمع.
ربّما، لذلك ميّز القرآن الكريم أيضاً بين «المسلمين» و«المؤمنين»، فإشهار الإسلام وممارسة العبادات أمر يحكم الناس على رؤيته ووجوده، لكن فعل «الإيمان» متروكٌ إدراكه وتقدير مدى صحّته للخالق سبحانه وتعالى.
وكم هي بليغة في معانيها الآية الكريمة (33) من سورة «فصّلت»: «ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين».
ففي هذه الآية يرتبط «القول الحسن»، الذي يسبق القول «إنّني من المسلمين»، بالجمع بين الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وبين العمل الصالح.
كذلك الآية (10) من سورة «فاطر»: «من كان يريدُ العزّةَ فللّهِ العزّةُ جميعاً، إليه يصعدُ الكلِمُ الطيّبُ والعملُ الصالحُ يرفعُهُ، والذين يمكرونَ السيّئاتِ لهمْ عذابٌ شديدٌ وَمكْرُ أولئكَ هو يبور».
فـ«العمل الصالح» هنا هو الذي يرفع «الكلم الطيّب» إلى الخالق، وهو «الفعل» الذي يجب أن يرفق «القول» لكي يصل إلى الله عزّ وجلّ.
عن العلم والمنطق والعقل
كثيرون الآن في الغرب يتّهمون الإسلام بالحضّ على ممارسة العنف، وبأنّ المسلمين لا يتعاملون مع الأمور بالعقل والمنطق والعلم. ومعايير هؤلاء «الغربيين» هي وقائع أحوال مجتمعات بلدان العالم الإسلامي وما يحدث هنا وهناك من ممارسات عنفية باسم الإسلام. لكن بغضّ النظر عن الأبعاد السياسية المشبوهة في هذه الاتّهامات، وعن أسباب التخلّف والعنف في المجتمعات الإسلامية، والتي يتحمّل نصيباً كبيراً منها الغرب نفسه، فإنّ بعض المسلمين يتجاهلون أحياناً القيمة الكبرى التي أعطاها الله في قرآنه الكريم لكلٍّ من العلم والمنطق والعقل.
إنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام كان أوّل المسلمين وكان في دعوته للإيمان بالله الواحد، وفي مخاطبته لقومه، وقبل هذا وذاك في كيفيّة إدراكه لوحدانيّة الله، يستند إلى المنطق والحجّة أساساً. وقد مارس ذلك حينما تساءل عن أفول المخلوقات وبأنّها لا تستحقّ العبادة، ثمّ في طريقة تحطيمه للأصنام إلا واحداً منها لكي يحاجج قومه بأن يسألوا الصنم المتبقّي عمّا حدث!
فقد ارتبطت الدعوة إلى الله لدى جد الأنبياء باستخدام الحجّة والمنطق، ولم تقترن أصلاً بمعجزات أجراها الله على يديه مع أتباعه، كما حدث مع النبي موسى والنبي عيسى عليهما السلام.
كذلك كانت سيرة خاتم الرسل محمدّ (صلّى الله عليه وسلّم)، النبيّ الأمّي الذي تلقّى وحي التنزيل لقرآنٍ بليغ، وهو في الأربعين من العمر، فلم تكن دعوته إلى الإيمان والعمل الصالح مقترنة بمعجزات لإقناع الصحابة بما أوحي إليه، بل في نصوص قرآنية هي كلمات الله تعالى التي عجز البشر عن محاكاتها، والتي جاء في حوالي خمسين آية منها ذكر «العقل» ومشتقاته.
فالدعوة للإيمان بالخالق الواحد اقترنت بالمنطق والحجّة، ودعت إلى استخدام العقل والتدبّر في فهم الخلق، فهكذا كانت السيرة مع جد الأنبياء وهكذا اختتمت مع خاتمهم، عليهم السلام أجمعين.
إنّ دول الغرب تستند في تراثها الديني لما هو مزيج من الرسالتين اليهودية والمسيحية، وكلاهما اعتمدتا في فترة ظهورهما على المعجزات لإقناع الناس بالدعوة إلى الإيمان بالله أكثر من الاعتماد على المنطق والحجّة والعقل! ثمّ اختار الغرب في القرون القليلة الماضية الابتعاد عن الدين مستخدماً العلم والمنهج العقلاني بمعزل عن تراثه الديني، بينما اختار الشرق (أو لنقل اضطرّ لذلك) الابتعاد عن العلم والعقلانية بظنّ ووهم أنّ ذلك يقرّبه من الدين، فإذا به يعود إلى عصر الجاهلية!
في القرآن الكريم قيمة كبرى للعلم وللعلماء، قلَّ ما تُدرَك. وهي مسألة واضحة في أكثر من آية قرآنية وحديث نبوي شريف. لكن استوقفتني الآيات الكريمة (30–34 سورة البقرة) التي فيها حوار الله تعالى مع الملائكة حول السجود لآدم، وكيف أنّ الملائكة خاطبوا الخالق عزّ وجلّ بعدما أبلغهم أنّه «جاعلٌ في الأرض خليفة»، فقالوا «أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ ونحن نسبّحُ بحمدٍكَ ونقدّسُ لك»، فجاءت الآيات بعد ذلك تتحدّث عن الميزة التي جعلها الله تعالى في مخلوقه آدم وتقتضي من الملائكة السجود له، وهي ميزة العلم.
خلاصات من آيات قرآنية
نقرأ في القرآن الكريم: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّـهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا» (الآية 125 من سورة النساء).
لكن نحن لا نعرف كيف ومتى كان النبي إيراهيم (ص) يصلّي ويصوم، وهو الذي جاء قبل ظهور التوارة والإنجيل والقرآن، وقبل تعصّب بعض المسلمين لمذاهب واجتهادات فقهية حصلت بعد ختم النبوة. فالنبي إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا سنّياً ولا شيعياً، بل كان مسلماً حنيفاً بالمعنى الشمولي لكلمة «الإسلام» التي تعني كل من آمن بالله الخالق عزّ وجلّ.
أيضاً، أجد في الآية 12 من سورة فاطر، حكمة بليغة ودرساً هاماً لمن لا يقبلون بالرأي الآخر ولا يجدون الحقيقة والمنفعة إلاّ فيما هم عليه من معتقد وينكرون ذلك على المخالفين لهم. تقول الآية الكريمة: «وَمَا يَستَوِى ٱلبحرَانِ هَـٰذَا عَذبٌ فُرَاتٌ سَآئغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحمًا طَرِيًّا وَتَسَتخرِجُونَ حِليَةً تَلبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلفُلكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبتَغُواْ مِن فَضلِه وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ».
فسبحان الله الذي خلق هذا التنوّع والاختلاف في كلِّ خلقه بما في ذلك الماء الذي جعل منه كلَّ شيءٍ حي، فإذا بالآية تؤكّد على أنّه بالرغم من عدم سواسية «البحرين»، أحدهما عذبٌ والآخر ملحٌ أجاج، فإنّ بينهما فوائد وقواسم مشتركة يستفيد منها الناس: أكل اللحم الطري، استخراج الحلي وتسيير السفن فيهما… فهكذا يجب أن تكون حكمة وأمثولة هذه الآية في كلّ أمور الناس وأفكارهم وأعمالهم وأشكالهم. فالاختلاف لا يعني عدم وجود قواسم ومنافع مشتركة يمكن البناء عليها بين «المختلفين».
وفي سورة فاطر، نجد أيضاً في مطلع الآية 18 دعوة لعدم التعميم في الأحكام: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى»، وهو أمرٌ كانت عليه القبائل العربية قبل الإسلام من حيث أسلوب العقاب الجماعي لعائلة أو عشيرة أو قبيلة إذا أخطأ أحد أفرادها، وهي مفاهيم ما زالت قائمة للأسف في العديد من المجتمعات حيث يقترن مفهوم «الثأر» بعقاب جماعة المخطئ لا المخطئ نفسه فقط، كما نرى المشكلة في تعميم النظرة السلبية على أفكار وهُويات وشعوب وأديان بسبب أخطاء أو جرائم أفراد ينتمون إليها.
كذلك نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم»، وفي ذلك ارتباط حتمي بين الإنسان عموماً في أيِّ زمانٍ ومكان، وبين الكرامة في الوجود والتكريم في الحياة والدور.
لكن أين هي هذه المفاهيم في واقع وسيرة الناس، أفراداً كانوا أم جماعاتٍ وأمما؟ صحيح أنّ الرسالات السماوية وضعت الكثير من ضوابط السلوك الإنساني تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوماً الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز وبعض العادات والتقاليد على القيَم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق.
هو عصرٌ نعيشه الآن فيه مزيجٌ من التحدّي: تحدّي الجهل عن حقيقة الإسلام لدى غير المسلمين، وتحدّي الجاهلية التي يكرّر سماتها بعض المسلمين في الأفكار والممارسات معاً.
Leave a Reply