وليد مرمر
لم تنتظر «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) كثيراً! فبعد أن أتمت روسيا مناوراتها العسكرية الكبيرة في البحر الأبيض المتوسط منذ أسبوعين والتي شاركت فيها عشرات السفن والطائرات والقاذفات الاستراتيجية، وبعدما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن «تصفية الإرهابيين» في إدلب هو حق للدولة السورية وشاركه بهذا الرأي نظيره الإيراني، وفيما أنهت الدولة السورية الاستعدادات الميدانية لـ«أم المعارك»، جاء أمر العمليات مجدداً للخوذ البيضاء: فبركة هجوم كيميائي يعطي الذريعة لأميركا وحلفائها بالتدخل لإنقاذ ما تبقى من فلول الإرهابيين في إدلب!
هذا ما حصل يوم الأحد الماضي في قرية «الكبانة» في ريف اللاذقية الشرقي، حيث نقلت وسائل التواصل الاجتماعي التابعة لـ«هيئة تحرير الشام» عن سقوط «قذائف أحدثت غمامة صفراء اللون مع وجود رائحة واخزة شبيهة برائحة الفلاش أو الكلور…»، فجاء الرد الأميركي هذه المرة بأن الهجوم الكيميائي بحاجة للتوثيق وأن الأدلة غير متوفرة حتى الآن.
ويبدو أن هناك ثلاثة سينياريوهات لرد الفعل الأميركي «المعتدل»: الأول، هو أن أصحاب «الخوذ البيضاء» لم يوثقوا مسرحيتهم كما يجب، فيتم تجاهل الهجوم المزعوم وكأنه شيء لم يكن.
والثاني، هو أن الإدارة الأميركية تريد في الوقت الحالي، التركيز على الملف الإيراني وترى بالتالي أن التصعيد في سوريا الآن من خلال «معاقبة النظام» سوف يشتت الانتباه عن هذا الملف وربما قد ينعكس عليه بعكس ما تشتهيه سفن واشنطن.
أما السيناريو الثالث وهو الأقرب للواقعية، فهو أن معركة إدلب لن تتوقف بل سوف تستمر وبمباركة أميركية (أو في الحد الأدنى مع غض النظر الأميركي). وهذا ليس ترجيحاً بلا مرجّح، بل يأتي ترجمة للقمة الروسية الأميركية التي عقدت في سوتشي قبل حوالي الأسبوعين حيث تم الاتفاق بين القطبين على ملفات عدة من بينها الملف السوري.
والظاهر أن هناك «هارموني» غير مخفية بين بعض المصالح الأميركية والروسية في سوريا. فمن المعلوم أن تحرير إدلب سيتسبب بخسارة كبيرة لتركيا، ذلك لأنها آخر معاقل التطرف الإرهابي المدعوم منها في سوريا، فضلاً عن خطر تدفق المزيد من اللاجئين والإرهابيين إليها (هناك ثلاثة ملايين ونصف لاجئ سوري في تركيا الآن).
ولكن ما هي مصلحة الإدارة الأميركية من اشتداد الخناق على إدلب؟ يبدو أن إحراج التركي الذي لا يخفي انزعاجه من سياسات واشنطن المحابية للأكراد يصب في هذا الإطار. كذلك لم تخف الإدارة الأميركية استياءها من التقارب الروسي-التركي سيما عبر صفقة «أس-400» وما تبعها من إعلان تركيا أنها ستشارك روسيا في إنتاج «أس-500». وهو ما حدا بالإدارة الأميركية إلى التهديد بإيقاف تصدير مقاتلات «أف-35» لتركيا لأنها ستكون معرضة للاختراق الأمني من منظومة «أس» الروسية.
كذلك يبدو أن الإدارة الأميركية قد وافقت على بدء المعركة في إدلب مقابل ضمانات قد أعطيت من الدب الروسي لراعي البقر الأميركي من أن الجيش السوري لن يحاول أن يغير من الوضع القائم على الأرض مع قوات سوريا الديمقراطية، حليف أميركا الأول، أقله في المدى المنظور.
والمعلوم أن الأكراد يستولون على مساحات هائلة تتجاوز مناطق تواجدهم الديموغرافي في الشمال السوري. وهذا الأمر أيضاً يسبب قلقاً متزايداً لدى الأتراك.
ولكن بالمقابل، يشير بعض المحللين إلى أنه ليس هناك تبايناً أميركياً-تركياً جوهرياً في إدارة الأزمة السورية بل إن الأمر لا يعدو كونه اختلافاً على بعض الملفات الميدانية وليس العناوين العريضة.
فقد أعلن ترامب في أوائل العام الجاري، عزمه على إنشاء «منطقة آمنة» على الحدود التركية بعرض 30 كيلومتراً، وهو مطلب تركي أساساً، وذلك لإبعاد القوات الكردية عن الحدود. كذلك فإن أميركا ستعطي لتركيا الكلمة الفصل في الإشراف على منطقة شرق الفرات بعد انسحاب الجنود الأميركيين منها.
ويبدو من بعض المؤشرات الميدانية أن العد التنازلي لـ«أم المعارك» السورية قد بدأ بدعم روسي وإيراني، مع ترقب وحذر تركي أملاً بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، سيما مع وجود أكثر من ألف جندي تركي في «نقاط مراقبة» في إدلب وجوارها، وخوفاً من تدفق غير مسبوق لمئات آلاف اللاجئين لدى البدء بالهجوم.
وحسب مصادر مراقبة فإن عدد المسلحين المتواجدين في إدلب يقدر بأكثر من 200 ألف مسلح تابعين لـ«هيئة تحرير الشام» وأخواتها، مع فلول فصائل «الجيش الحر» (الإخوان المسلمون) حليف تركيا الأقرب. ويقدر أن ربع المسلحين تقريباً هم من شذاذ الآفاق الذين استقدموا خلال سنوات الأزمة السورية تنفيذاً للأجندات الإقليمية والدولية. ولقد تجمع أغلبهم في إدلب نتيجة سقوط المحافظات والمدن تباعاً في أيدي الجيش العربي السوري حيث كانت تُترك لهم ممرات آمنة لينتقلوا من معاقلهم في الغوطة والقنيطرة وحمص وحلب ودرعا وغيرها إلى إدلب، إضافة إلى حوالي ثلاثة ملايين ونصف مليون مدني معظمهم من النازحين.
كل هذه الوقائع تشير إلى أن ملف إدلب هو من أكثر الملفات تعقيداً في الأزمة السورية نتيجة لتشابك المصالح الإقليمية والدولية. لذا من المستبعد أن تكون هناك معركة حاسمة في إدلب تقلب الموازين على الأرض رأساً على عقب. وما حصل منذ أيام في قرية كفرنبودة (حيث حررها الجيش السوري لتعود الفصائل المسلحة وتستردها في هجوم مضاد) يؤيد أن المعارك ستكون لتغيير بعض نقاط التماس لخفض التوتر في صالح الدولة السورية، عبر القضم التدريجي لبعض المناطق الاستراتيجية في ريفي حماه وإدلب، بانتظار الحل الإقليمي والدولي.
Leave a Reply