نبيل هيثم – «صدى الوطن»
مرّة جديدة تظهر السعودية جهلها في إدارة السياسة الخارجية. القمم العربية والإسلامية والخليجية التي دعت إليها للحصول على دعم ضد ما تسميه الخطر الإيراني، والهادفة، كما يبدو واضحاً، إلى التحريض ضد الجمهورية الإسلامية في ظل تصاعد التوتر في الشرق الأوسط، ضاعت نتائجهما مسبقاً في عملية خلط للأوراق الإقليمية، ابتداءاً من إسرائيل، وصولاً إلى الخليج.
وإذ تنعقد القمم الثلاث في السعودية للتشاور حول الموقف من التدخلات الإيرانية، تتنوع مواقف الدول العربية والإسلامية، من تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران كامتداد لقرار دونالد ترامب بالانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي، وما تلا ذلك من إجراءات أدّت في نهاية الأمر إلى إعلان طهران تعليق التزاماتها ببعض بنود تسوية فيينا.
على هذا الأساس، تواجه السعودية مشكلة كبيرة في حشد الدعم، حتى من حيث المواقف السياسية العامة، وهو أمر تفرضه طبيعة التموضعات السياسية بين الدول المشاركة فيهما.
على المستوى العربي العام، يبدو واضحاً التناقض بين الموقف السعودي وموقف كل من العراق ولبنان، على سبيل المثال، إزاء التصعيد ضد إيران. لكنّ الأهم في الأمر، أن التباين يمتد ليشمل المعسكر الخليجي نفسه، حيث يتباين موقف كل من السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وموقف قطر وعمان والكويت من جهة أخرى، فقطر تموضعت خارج الاصطفاف السعودي منذ حصارها، لا بل أنها تحظى بدعم من إيران، فيما تسعى سلطنة عمان للقيام بجهود للوساطة، في حين تبدو الكويت أقل حدة من السعودية في موقفها.
على هذا الأساس، فإن التفاوض على موقف موحد لدول الخليج سيكون صعباً، وبالتالي فإنّ كل ما ستحصل عليه السعودية هو مجرّد استعراض إعلامي بوجه ما تسميه «التهديدات الإيرانية»، على غرار كل القمم والاجتماعات السابقة، والتي لا تغيّر قيد أنملة في معادلات أوسع بكثير من طموحات آل سعود.
الموقف الأميركي
وإذا كانت السعودية قد اختزلت جدول أعمال القمتين بالعمل على «التصدي بكل حزم» لنشاطات إيران وحلفائها، على حد قول وزير الخارجية إبراهيم العساف، فإنّ تحوّلات المواقف الأميركية ربما ولّدت بالفعل خيبة أمل لدى السعوديين، تحت ظل التراجع التكتيكي في اللهجة التصعيدية عند ترامب وفريقه تجاه إيران، برغم استمرار التوتر القائم.
أولى المؤشرات المهمة أميركياً أتت على لسان دونالد ترامب نفسه، حين قال «نحن لا نسعى لتغيير النظام في إيران. أريد فقط أن أوضح ذلك. نحن نسعى إلى عدم امتلاك إيران أسلحة نووية»، معرباً في الوقت ذاته عن اعتقاده برغبة طهران في إبرام اتفاق جديدة بسبب العقوبات الاقتصادية الأميركية الضخمة المفروضة.
حتى جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي، وأكثر الصقور الأميركيين تشدداً، استخدم لهجة غير مألوفة، حين قال إن الهجمات على ناقلات نفط قبالة ساحل الإمارات في وقت سابق هذا الشهر تمت باستخدام ألغام بحرية من إيران بشكل «شبه مؤكد»، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة تحاول أن تتحلى بـ«الحكمة والمسؤولية» في نهجها.
وبالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية، فإنّ «الحكمة والمسؤولية» تعني بعبارات أخرى أن ثمة عراقيل تجعل الخيار العسكري غير مطروح في الوقت الراهن. هذه العراقيل، لا تقتصر بطبيعة الحال على الكلفة الاقتصادية والبشرية للحرب المحتملة مع إيران، بل تصل إلى ما هو أهم، وهو احتمال أن تؤدي أية مغامرة من هذا القبيل إلى تقويض الاستراتيجية الأوسع التي تضمن بقاء الولايات المتحدة «قوة عظمى» والتصدي لروسيا والصين اللتين باتتا، منذ كانون الثاني (يناير) عام 2018، في قلب الاستراتيجية العسكرية الجديدة للولايات المتحدة، التي تغيرت أولوياتها بعد أكثر من 15 عاماً من التركيز على «محاربة الإرهاب».
وفي السياق، أتى إعلان القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي باتريك شاناهان أنّ «البنتاغون» بحث إمكانية إرسال قوات إضافية إلى الشرق الأوسط لتعزيز حماية القوات الأميركية هناك في ظل تصاعد التوتر مع إيران، لكنه شدد في المقابل على أن المطروح «لا عشرة آلاف ولا خمسة آلاف جندي»، بعدما كان الحديث الإعلامي يدور خلال الأيام السابقة عن 100 ألف إلى 150 ألف جندي!
تعثّر صفقة القرن
علاوة على ما سبق، فإنّ ثمة عنصر إقليمي آخر، ربما يجعل التوتر مع إيران، في الفترة الحالية، أمراً عديم الجدوى، خصوصاً إذا ما صحّت فرضية الترابط بين التصعيد الأخير و«صفقة القرن» التي تسعى الإدارة الأميركية إلى فرضها كتسوية ذات بعد إقليمي بين الفلسطينيين وإسرائيل.
من الواضح أن الصفقة متعثرة، وهو ما أظهره عرّابها جاريد كوشنير حين أكّد تأجيل إعلان الخطة «حتى إشعار آخر»، مواصلاً في المقابل محاولات تسويقها عبر مؤتمر البحرين الاقتصادي، الذي قوبل برفض شديد، حتى من قبل أكثر المتحمسين للتسويات على غرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ومما لا شك فيه أن صفقة القرن تعرضت لانتكاسة جديدة، مع تصويت الجمعية العامة للبرلمان الإسرائيلي على قانون «حلّ الكنيست»، تمهيداً للتوجه إلى انتخابات عامة جديدة ستُجرى نهاية آب (أغسطس) أو بداية أيلول (سبتمبر) المقبلين.
وجاء ذلك عقب فشل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامن نتنياهو في حشد غالبية لإطلاق حكومته الخامسة، مما انتهى إلى سنّ الكنيست قانوناً حلّ به نفسه، وأعلن عن إجراء انتخابات جديدة بعد ثلاثة اشهر.
جهود نتنياهو اصطدمت بخلافات بين حلفائه حول سن قانون يلزم الشبان المتدينين بالخدمة العسكرية في واحدة من أعمق الخلافات الداخلية التي عبّر عنها وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان حين تحدث عن «إصرار الليكود على تحويل إسرائيل إلى دولة إكراه ديني بالشراكة مع الأحزاب المتدينة».
وتشكلت الأزمة بسبب إصرار ليبرمان على صيغة مشروع قانون التجنيد التي تلزم طلبة المدارس الدينية بالخدمة العسكرية، الأمر الذي يرفضه بشدة حزبا «يهدوت هتوراه» و«شاس». وقد أصر ليبرمان على موقفه، مع تصاعد هجوم حزب «الليكود» عليه بشكل شخصي واتهامه بأنه يسعى لإسقاط نتنياهو من أجل خلافته في زعامة اليمين الإسرائيلي.
والجدير بالذكر أن نتنياهو حاول تجاوز الأزمة عبر التوجه إلى «حزب العمل» وعرض عليه ثلاث حقائب وزارية، بالإضافة إلى إعطائه ضمانات بعدم سن قوانين شخصية تتعلق بالحصانة أو الالتفاف على قرارات المحكمة العليا، وهو خيار قد يكون متاحاً أمامه مجدداً بعد أشهر، بما قد ينعكس على وحدة الموقف الداخلي في إسرائيل من التسوية مع الفلسطينيين.
خطوة إلى الخلف
انطلاقاً من خلط الأوراق هذا، فإنّ الأولويات الأميركية في ما يتصل بالخليج يمكن أن تعود مربعاً أو أكثر إلى الخلف، عبر تحويل التوتر القائم مع إيران إلى مجرّد فرصة اقتصادية جديدة لضخ مليارات الدولارات من الخليج إلى الخزينة الأميركية.
والواقع أن ترامب لم يتأخر كثيراً في ذلك، إذ تجاهل اعتراضات الكونغرس وأقر بيع أسلحة بثمانية مليارات دولار للسعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن، قائلاً إن هناك حالة طوارئ وطنية بسبب التوتر مع إيران، وقد أخطرت إدارة ترامب بالفعل لجاناً في الكونغرس بأنها ستمضي قدماً في 22 صفقة أسلحة مع الدول الثلاث، لتصبح بذلك قمتا مكة أشبه بقمة مكافحة الإرهاب، التي تباهت السعودية بتنظيمها قبل عامين… بكلفة مليارية!
Leave a Reply