محمد العزير
تضعني قراءة كتاب «المهنة الآثمة» للزميل الأستاذ جهاد الزين أمام مفارقة فورية مزدوجة؛ الوجه الأول منها شخصي. من حسن طالعي أن الأستاذ الزين كان من النخبة اللامعة في جريدة «السفير» حين بدأت مشواري المهني فيها عام 1980. لم يكن يتميز بطلّته المهيبة التي يزيد منها صوته الجهوري فقط، بل كان الأهم شغفه بالمعرفة. والمعرفة هنا لا تقتصر على القضايا الكبرى والأفكار المثيرة، وإنما تشمل أدق تفصيل في حكاية شخصية أو حدث محلي، كما لا تقتصر على الاستماع والسؤال بل تتعداهما إلى السعي الدائم إلى التحصيل المعرفي وكأنه، وهو حامل إرثٍ ثقافي وإعلامي أباً عن جدّ، في بداية مشواره التحصيلي، يتحمس لأية ورشة أو دورة أو مؤتمر أو تدريب، بطريقة يرى فيها أقرانه أن ذيوع أسمائهم لم يعد في حاجة إليها.
الوجه الآخر للمفارقة هو أن يكتشف صحفي مثلي بعد أكثر من ثلاثة عقود من العمل في مناخ مطلق الحرية وغزير المصادر ومفعم بالسياسة، أن العامل الأكثر حيوية في الصحافة هو الجمهور الذي تتوجه إليه، أضعاف المنبر الذي تنطلق منه. ويتفهم بالتالي ولو متأخراً أن الاغتراب عن الوطن لا يعني تلقائياً التغيير في المفاهيم والاهتمامات، بل يؤدي في حال العمل ضمن نطاق الجالية إلى تضييق إطار التفاعل، والاضطرار إلى معالجة أكثر بدائية للخبر والتعليق والتحليل بما يتناسب مع العواطف والأهواء، ما عدا الدور الإرشادي عن الاختلافات القانونية والإدارية الواجب التنبه إليها في العالم الجديد.
من الفقرة الأولى في تقديم الكتاب يكتشف القارئ اللغة المختلفة للكاتب الآتي إلى الصحافة من المحاماة، وليس من الإعلام. كل كلمة موزونة بدقة؛ من العنوان إلى التعبير إلى سياق تقديم الفكرة بتفصيل يلزمك بالقراءة كلمة كلمة، فلا مساحة للتجميل ولا استعراض لغوي، «الكتابة هي جزء من تاريخ الصحافي وحاضره، هنا في هذا الكتاب سيكون الكاتب جزءاً من «تاريخ» كتابته وحاضرها…»، في الفصل الأول يقارن الكاتب بين المنجّم وبين الصحافي فيرى الفارق بينهما ضئيلاً لكن الاختلاف كبير «المنجم دور كاذب…» أما الصحفيون والصحفيات فهم من «عرّافي» العصور الحديثة الأقل ثقة «بأدوارهم حين يكون عليهم… أن يلعبوا هذا الدور أو يجبروا على لعبه تحت أي مسمى: تحليل، معلومة، تكهّن».
في بلد مثل لبنان، وفي المرحلة التي عاشها الكاتب ولا يزال، الكثير من المادة الإعلامية والكثير من الحاجة إلى التعليق والتحليل. والكاتب لا يبخل في إعطاء أمثلة معبرة جداً وبطريقة بارعة عن علاقات السلطة الداخلية (بين أفرادها ومكوناتها) وبين علاقتها مع الصحافة والإعلام خصوصاً إبان مرحلة الوصاية السورية على لبنان ومرحلة صعود نجم الرئيس الراحل رفيق الحريري، مع الحرص على رؤية المحلي على خلفية إقليمية وفي إطار دولي. لا يتأخر الأستاذ الزين في تقديم وسائل التواصل الحديثة وتأثيرها على اللغة الشغوف بالاشتقاق منها، ليس الاشتقاق عن ترجمة لكلمة أجنبية بل اشتقاق التعبير من قلب اللغة العربية دون مخالفة روحها ولو على حساب قواعدها وهو ما يجده في الطفرة التعبيرية على وسائل التواصل التي يطلق عليها صفة «عضة التكنولوجيا».
وفي الوقت الذي تكثر فيه الشكوى من عدم مجاراة العربية تعبيرياً للعصر الحديث، وخصوصاً في مجال التقنيات، يرى الكاتب «أن لا حدود لقدرة اللغة العربية على تحمل الاشتقاق والانشقاق من داخلها أولاً، ومن خارجها تالياً»، ويبدي تفاؤلاً ذهب إليه المفكر واللغوي العربي الدكتور أحمد بيضون في كتابه الأخير «في صحبة العربية»، داعياً إلى الاسترشاد بآلية الاشتقاق في العامية لرفد اللغة بمرونة تجعلها أقدر على استيعاب المفردات الجديدة بشكل رائع.
وفي تناوله لأسلوب التحليل في المقال يميز الزين بين عمق الرصيد المعرفي الثقافي اليساري وبين قوة الرؤية الواقعية اليمينية في تناول أية قضية. ويطلق صفة «اللا مقال» على أي تعليق سياسي لا يضيف إلى اللحظة فكرة تقييمية «أياً تكن في تصنيف رأي أو تصنيف معلومة أو اقتراح أو نقد»، ويعتبر ذلك بصرف النظر عن الكاتب «سر خديعة تحمل في ذاتها كل بنية السلطة وممارساتها». لكن الأستاذ جهاد يعترف بتأثير عامل الخوف كحقيقة ثابتة على الكاتب في الشرق الأوسط «تحسباً لانتقام قوة عاتية»، أمنية أو سياسية أو مالية، ويشير إلى أن هذا الهاجس يزيد من «انهيار بنى الحياة السياسية وتخلفها، ما لا يعزز موضوعياً ثقافة تبعية الصحافة فقط، بل أيضاً ثقافة الفساد والزبائنية».
بلغة رشيقة وشجاعة أدبية يوجز الكاتب كيف أخرج نفسه في جو قائم على الانقسام من تبعية الموجات السائدة – هذه كانت أولى ملاحظاتي عليه في «السفير» التي كانت حين تعرفت إليه، صحيفة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، فيما كان الكاتب الذي كان يتولى صفحة الرأي فيها مستقلاً وموضوعياً. ويذكر في هذا الإاطار الكثير من حالات الاجماع التلقائي التي لم يعاملها كذلك، وهو ما يطلق عليه وصف «الارتياب» الذي يدخل منه إلى واقع الصحافة اللبنانية والعربية غير القادرة على تمويل نفسها تجارياً فتبقى في حاجة إلى تمويل له شروطه وموجباته السياسة، وهو ما يترجم عند الكاتب في طبقة إضافية من الرقابة وهي الرقابة الذاتية التي لا يراها مقتصرة على الكاتب العربي بل تطال الكتاب الأوروبيين والأميركيين في تناولهم لبعض المواضيع وخصوصاً المحرقة النازية.
لا ينفي الكاتب صفة الفساد عن بعض المقالات، لا يستغرب ذلك في صحف «تُعار وتُشترى وتُباع» مقتبساً قول الجواهري. ولا يموه كلماته وهو يتناول تمويل الأنظمة للصحف «هذا المال السياسي تحول إلى تقليد وجودي في الصحافة اللبنانية» قبل أن ينتقل الآن إلى التلفزيون. ويصف تأثير المال على المقال بالتلوث، ويحدد النص الفاسد بالتحليل القائم على «الضعف والتفاهة أو قصور في معايير تركيبه أو فساده الانحيازي». ويطرح معضلة الكاتب الذي تتوفر له معلومات مهمة أو خطيرة وكيفية معالجتها خصوصاً عندما تكون ذات طبيعة أمنية مثل الاغتيالات، وهنا أيضاً لا يموّه كلماته في تحديد مسؤولية عمليات اغتيال موصوفة في لبنان والعالم، كما يستعرض محاكمات شهيرة ليخلص إلى أن «هناك محرمات أكيدة في الكتابة ولكن ليس في السؤال أو الأسئلة التي تطرحها على نفسك كمعلق خلال الكتابة».
يحمل الأستاذ الزين صعود الأصولية الإسلامية، ومحاباة الأنظمة العسكرية لها، مسؤولية التحريم في الكتابة، ويرد ذلك إلى نصوص دينية مؤسسة تضع حرماً افتراضياً على المشتغل بالصحافة، ما أدى في العقود الأخيرة إلى سيطرة الأصولية على «السلطة الثقافية»، مقابل «إرهاب نصوصي» مارسه معلقون علمانيون مهاجرون، بعد بدء أحداث 2011 في سوريا.
وللمهاجرين حيز واسع في فصول الكتاب الذي يؤكد أن الهجرة التي كانت في السابق فردية في معظمها باستثناءات قليلة أصبحت الآن هجرة شعوب كاملة من لبنان والعراق وسوريا ودول إسلامية آسيوية، ولا يتردد في تحميل الأصولية الإسلامية مسؤولية ما آلت اليه أحوال الكثير من الأقطار العربية والإسلامية، وينقل عن أستاذة جامعية في إيران قولها الهامس على هامش نشاط في طهران «إن العالم المسلم لن يتحرر من سطوة رجال الدين على حياته إذا لم يحصل ما حصل في أوروبا في عصر النهضة، وهو إهانة المؤسسات الدينية، وبالتالي إهانة رجال الدين كما فعل مفكرو ذلك العصر في مواقفهم ضد الكنيسة، وكما لا يزال يحصل في أوروبا وأميركا اللتين تعاملان رجال الدين المسيحيين كمواطنين خاضعين للقانون، ولا تتردد صحافتهما في عرض فضائحهم وسجنهم حين يرتكبونها من دون أية معاملة خاصة».
الكتاب زاخر بالمعلومات والمراجع التي تليق بأربعين سنة من التحصيل الجاد والتعلم المستمر والمعرفة المنفتحة، وبالطبع الكتابة والاشراف على نشر آلاف المقالات في صحيفتين رائدتين «السفير» و«النهار». ومن نافل القول إنه لا يمكن الوقوف على كل فصول الكتاب في مقالة واحدة. لكن في الكتاب خلاصات غاية في الأهمية يجبرني ضيق المساحة على انتقاء ثلاث منها:
1– إن الإسلام السياسي فشل في الحكم، لا بل يعترف الكاتب انه اخطأ في رهانه على قدرة النموذج التركي في المواءمة بين الإسلام والحداثة، ويحمل اردوغان شخصياً ومن خلفه حزب العدالة والتنمية مسؤولية تدمير تلك التجربة التي كانت واعدة.
٢– إن قضية فلسطين لم تعد شأناً عربياً ولم يعد المعطى العربي فيها فعالاً. الذي يبقي القضية الفلسطينية على قيد الحياة الآن والذي يسمح ببعض الأمل في التوصل إلى حل مقبول لها هو أن الدوائر والنخب الغربية بدأت في تبني قضية الشعب الفلسطيني وهي قادرة في نهاية المطاف على تحقيق ذلك.
٣– إن المستقبل العربي بات مرهوناً بالشعوب العربية المهاجرة إلى دول الغرب، وإن كان لا يعول كثيراً على المهاجرين الجدد، فانه يستبشر بالجيل الثاني والثالث من المهاجرين الذين سيعودون لتولي زمام الأمور وإخراج البلدان العربية من الشعارات والقيم القديمة وإدخالها في مسار العصر.
أما الخلاصة المهنية فدوّنها على غلاف الكتاب «السياسة لا تصنع التاريخ فقط، في مراحل أخرى هي نفسها التي تزوره كما نلاحظ في عدد من الأسئلة–المعضلات–الإجابات. والمحلل السياسي يراوح دائماً بين دوري المزوّر، من دون إدراك في العديد من الأحيان، والساذج، إذا لم يمتلك إرادة الانتباه والتوازن والعناد…».
لو كنت أستاذاً في الاعلام أو السياسة في جامعة عربية، وشهادتي في الأستاذ جهاد الزين مجروحة على ما يقول المثل، لما ترددت لحظة في إدراج هذا الكتاب كمقرر رئيس في المادة التعليمية. هذا الكتاب ليس مجرد مراجعة لمقالات كاتب وتجربته. هذا سفر من تاريخ حافل لا يزال راهناً ومعاصراً ويملي علينا الكثير من أقوالنا وأفعالنا. هذا «تأريخ» لصحافة وسياسة متداخلتين في منطقة كل ما فيها متداخل ولا يمكن تمييز معطياتها بلا عين مدربة ونظر ثاقب وتجربة غنية لا يمتلكها، للأسف، إلا قلة نادرة من نخبنا العربية.
Leave a Reply