مريم شهاب
زار أحد الصحافيين الممثل الراحل محمود عبد العزيز مهنئاً انتقاله إلى فيلته الجديدة. وجده جالساً أمام حمام السباحة الواسع وحوله حديقة يانعة خضراء وأشجار زينة وممرات مضاءة، قال له: «مبروك عليك أستاذ محمود هذا البيت الفخم، وهو أشبه بقصر، أنت تستحقه بعد تعب السنين».
صمت عبد العزيز قليلاً، شارداً بعيداً عنه، ثم أجابه: «لقد تأخر هذا البيت كثيراً، ما حاجتي الآن لكل هذه الفخامة والضخامة، ما أحتاجه الآن الهدوء والأمان في غرفة صغيرة بعيداً عن ضوضاء هذا العالم».
أظن هذا كل ما يحتاجه أبناء جيلي، من هم في سن يتذمرون فيه من درجات الحرارة المرتفعة وتؤذيهم برودة الطقس وتزعجهم الأصوات العالية وقيادة السيارة وسماع الأخبار و«التحاليل» السياسية والاجتماعية… فبعد سنوات العمر الطويلة، حين تتوقف تلقائياً عن التفكير في نفسك وتصبح شعلة الأولاد هي الأهم، فتشاركهم أسرار البقاء وزهوة الأمل والخوف عليهم من غدرات الزمان، والدعوات التي لا تنتهي أن يعطيهم الله تبارك وتعالى أياماً حلوة.
الكثيرون من هذا الجيل، شدّهم الحنين للرجوع إلى المكان الأول، إلى بيت أهله، إلى مرتع الطفولة والتلال والحقول، خصوصاً في جنوب لبنان بعد تحريره من الاحتلال الإسرائيلي، فعادوا إلى قراهم وبلداتهم وبنوا فيها بيوتاً فخمة وقصوراً ضخمة، أحاطوها بأسوار حديدية أشبه بالسجون، وتركوها وعادوا إلى ديربورن وغيرها في بلاد الهجرة، والحسرة في قلوبهم لأن أولادهم وأحفادهم لن يسكنوها، بل معظم الجدات، يجد صعوبة في ترك الأولاد والأحفاد والرجوع للسكن في القرى، التي لم تعد قرى أصلاً. لقد تأخرت هذه البيوت كثيراً.
سألتُ أحد الأصدقاء الأحباء: لماذا بنيت ذلك البيت الكبير بطوابقه الثلاثة وهندسته التي تشبه القصور، رغم علمك الأكيد أنك لن تعود للسكن فيه لا أنت ولا عائلتك؟ كان جوابه بسيطاً: منذ صغري وأنا أحلم بهذا البيت، أحلم بأن يكون لي بيت في أرض أمي وأبي، الأرض التي حافظوا عليها، مثل الكثيرين. أنا من جيل الحروب والنكبات والنكسات والترقب لجولة الجنون التالية ومرحلة الضياع القادمة من ظلم أبدي يحيكه زعماء ووجهاء حروب كانوا سبباً لانعدام الفرص والعدالة والكرامة لجيل طموح. هاجرنا إلى بلاد بعيدة لا احتلال فيها ولا اغتصاب ولا سرقة ولا زعران يفسدون في الكون.
الأمر أشد مرارة على الأجيال التالية، فجيل أبنائنا لا مكان له اليوم في لبنان، إلّا من له «سند» بالتعبير اللبناني الفجّ.
بالرغم من ذلك يبقى لبنان بالنسبة لنا نحن الجيل السابق، ليس سيئاً على الإطلاق، يبقى الوطن، والأرض التي عاش عليها الآباء الأجداد، ونرضى أن نعيش فيه ولو في غرفة صغيرة هادئة، أما أصحاب القصور والفيلات الفخمة، ذات الأسوار الحديدية العالية، فهي كما قال الممثل الراحل محمود عبد العزيز: لقد تأخّرت كثيراً!
Leave a Reply