وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
مسافة أيام قليلة تفصلنا عن مهلة الستين يوماً التي كانت إيران قد منحتها للأوروبيين ليثبتوا خلالها صدق نواياهم تجاه الالتزام بالاتفاق النووي.
طهران أعلنت بوضوح، وللمرة الأولى منذ اتفاق فيينا، أن مخزونها من اليورانيوم قد تجاوز الحد المسموح به وهو حاجز الثلاثمئة كيلوغرام، الأمر الذي دفع الأوروبيين إلى التهديد بالانسحاب من الاتفاق.
صحيح أن إيران تهدف من خلال هذه الخطوة إلى إظهار المزيد من الصمود والقدرة على الثبات والتحدي في مواجهة الضغوط الأميركية الهائلة التي تمارَس عليها من قبل واشنطن، إلا أن هدفاً آخر لا بد وأن صناع السياسة في إيران يسعون إلى تحقيقه أيضاً، وهو حث الأوروبيين على تفعيل آلية التبادل المالي التي كانوا قد وعدوا بالسير فيها تفادياً للعقوبات الأميركية، وهذا ما بدأت ملامحه تتبلور مع إعلان الاتحاد الأوروبي تفعيل العمل بآلية التبادل المالي «إنستكس» في محاولة للالتفاف على العقوبات الأميركية بالتزامن مع إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مديرها العام، يوكيا أمانو، أكد بالفعل أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب قد تخطى الحد المسموح به، وهو ما أكده أيضاً وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.
أوروبا تستبق
على هامش اجتماع فيينا الأسبوع الفائت والذي ضم الدول الموقعة على الاتفاق النووي والتي تشمل كلاً من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا، أعلن الاتحاد الأوروبي أن آلية التبادل المالي مع إيران أصبحت جاهزة، وهو ما سيسمح بالقيام بتعاملات تجارية معها. بيان صدر عن اللجنة المشتركة أكد أن الاتفاق النووي ما زال عنصراً رئيسياً في مكافحة الانتشار النووي وفق القرار الأممي 2231.
مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني أعلنت أن آلية «إنستكس» قد بدأت بالفعل بتحويل الدفعات المالية الأولى، مشددة على تمسك الاتحاد بهذه الآلية لإلزام إيران بالبقاء في الاتفاق النووي. أما الأمينة العامة لإدارة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي هيلا شميث وعبر صفحتها على «تويتر» غردت قائلة: «إن الصفقات والتحويلات الأولى هي قيد الإتمام وسينضم المزيد من دول الاتحاد إلى هذا الجهد. وقد ذكرت بعض المصادر أن هناك مساعي حقيقية لفتح «إنستكس» أمام مشغلين اقتصاديين من دول من خارج الاتحاد الأوروبي.
فرنسا التي دعا رئيسها، إيران إلى العودة من دون تأخير عن تجاوز مستوى مخزون اليورانيوم المسموح به في الاتفاق النووي، أكدت اتخاذ خطوات لضمان وفاء إيران بالتزاماتها ولأن تستمر في الوقت نفسه بالإفادة من المزايا الاقتصادية للاتفاق النووي. روسيا أيضاً ذات الموقف شبه المحايد في الصراع الأميركي الإيراني، وعلى لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، دعت إيران إلى التحلي بضبط النفس ومراعاة الأحكام الأساسية للاتفاق النووي وضمانات وكالة الطاقة الذرية، وأحكام البروتوكول الملحق بهذا الاتفاق، لكنه لم يغفل عن دعوة الاتحاد الأوروبي إلى الوفاء بالتزاماته، في الشق المتعلق بتفعيل آلية التعاملات التجارية مع طهران.
الخيارات الأميركية تضيق
مجموعة من بالونات الاختبار ألقاها المسؤولون الأميركيون في تصريحات تراوح بين التهديد بتشديد الضغط على إيران واستمرار الدعوة إلى التفاوض مقابل التخلي عن القدرات النووية، وهو ما ترفضه طهران بشدة، مؤكدة حقها في امتلاك الطاقة النووية السلمية وعدم الخضوع لمبدأ التفاوض «تحت النار»، الأمر الذي يجعل من خيارات واشنطن تضيق أكثر فأكثر.
ولا شك في أن الإدارة الأميركية ترى في تفعيل آلية التبادل الاقتصادي مع إيران تحدياً أوروبياً لها، لكنها ومن دون شك، أيضاً ترحب ضمناً بهذا الإجراء، فالقاصي والداني باتا يدركان عدم الرغبة الأميركية في الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع طهران.
وتأتي هذه الخطوة من الجانب الأوروبي في محاولة لنزع فتيل التوتر الذي ارتفعت وتيرته خلال الفترة الماضية، أو على الأقل لتخفف من حدته.
التزمت واشنطن الصمت في بادئ الأمر ولم تعلق على سريان الآلية، ثم كرت لاحقاً سبحة التعليقات: بدءاً من المواقف المستهجنة حيناً والصادمة أحياناً والتي تصدر عن الرئيس الأميركي، فها هو رداً على سؤال خلال حفل في البيت الأبيض عما إذا كانت لديه رسالة لإيران، يقول إنه ليست لديه رسالة، لكن إيران تعلم ما تفعله وإنها «تلعب بالنار».
أما وزير الخارجية مايك بومبيو، فقد قال خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الألماني براين هوك في برلين إن آلية «إنستكس» بين الاتحاد الأوروبي وإيران لن تمثل مشكلة بالنسبة إلى بلاده ما دامت تُستخدم لتبادل البضائع التي لا تشملها العقوبات الأميركية، ويعِد في الوقت عينه بأن بلاده ستتخذ خطوة حاسمة. فيما ذكر بيان صادر عن وزارته إنه «يجب ألا يسمح أي اتفاق نووي للنظام الإيراني بتخصيب اليورانيوم على أي مستوى»، موضحاً أن إدارة ترامب تدعو المجتمع الدولي إلى «استعادة معيار حظر الانتشار النووي القديم المتمثل في عدم التخصيب لبرنامج إيران النووي»، وتابع أن «إيران تمتلك القدرة المطلقة في السعي للحصول على الطاقة النووية السلمية»، واعتبر البيان أن النظام الإيراني سيشكل خطراً أكبر على المنطقة والعالم إذا امتلك أسلحة نووية، وأوضح أن الولايات المتحدة «ملتزمة بالتفاوض على صفقة جديدة وشاملة مع النظام الإيراني لحل تهديداته للسلم والأمن الدوليين»، وأضاف البيان: «طالما استمرت إيران في رفض الدبلوماسية وتوسيع برنامجها النووي، فإن الضغوط الاقتصادية والعزلة الدبلوماسية ستزداد حدة».
وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» قد أوردت تقريراً كشفت فيه عن أن واشنطن أجلت حزمة جديدة من العقوبات على قطاع البتروكيمياويات الإيراني، في إشارة إضافية إلى الحؤول دون تأجيج التوتر مع طهران. البيت الأبيض أدلى بدلوه أيضاً، فأشار إلى أنه سيواصل تطبيق سياسة «الضغوط القصوى على النظام الإيراني إلى أن يغير قادته نهجهم»، مع التأكيد أنه يجب إلزام إيران بمبدأ عدم تخصيب اليورانيوم.
إيران والآلية الأوروبية
مع بلوغ الأزمة ذروتها لم تقفل طهران باب التعاون مع المجتع الدولي وتحديداً مع الأوروبيين، بالرغم من مواقفهم التي اتسمت أحياناً بالعدائية تجاهها، لكنها –وهي التي تعي جيداً حجم العزلة التي تعانيها جراء عقوبات واشنطن عليها– تتحمل تذبذب الموقف الأوروبي وضعفه وتخلفه عن الوفاء بالتزاماته التي نص عليها الاتفاق النووي، سعياً إلى فتح ثغرة في جدار العزلة، وفي محاولة محدودة للالتفاف على تلك العقوبات، علماً أنها منذ البداية لم تكن تعوّل على قوة لدى الأوروبيين تحملهم على الوقوف في وجه مَن خرق الاتفاق من جانب واحد، وخرق بذلك، القوانين الدولية (الولايات المتحدة)، لكنها لم تكن تريد منح الذريعة بيدها لأي كان للقول إن إيران دولة خارجة على القانون ولا تمتثل للمواثيق والأعراف الدولية.
ملخص الموقف الإيراني، هو في إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه ولمناسبة مرور نحو سنة على خروج ترامب من الاتفاق النووي فإن بلاده واستناداً إلى البندين السادس والعشرين والسادس والثلاثين من الاتفاق ستخفض التزاماتها، وستعيد مفاعل «آراك» إلى العمل، وهو ما يعني تجاوزها للحد الذي كان متفقاً عليه في تخصيب اليورانيوم، في خطوة أولية باتجاه الخروج النهائي من الاتفاق إزاء استمرار الوضع على ما هو عليه، مؤكداً أن بلاده ستخصب اليورانيوم بالحد الذي تحتاج إليه، محاولاً إبعاد تهمة افتعال التوتر القائم أصلاً بالقول إن واشنطن هي من أشعل لعبة النار وعليها العودة الى التزاماتها.
أما رأس الدبلوماسية الإيرانية محمد جواد ظريف فقال إن بلاده ستلتزم بالاتفاق النووي طالما التزمت الدول الأوروبية بتعهداتها، وقد جاء في بيان صادر عن وزارته أنه لا أحد في الحكومة يعقد الأمل على آلية «إنستكس» لكن طهران لم تغلق الطريق في وجهها وهي غير كافية، غير أنها مجرد مقدمة لإجراء التعهدات الأحد عشر الأوروبية التي لم يتم تفعيلها. وقد وصف مبعوث إيران إلى الأمم المتحدة، مجيد تخت روانتشي، الآلية الأوروبية بـ«سيارة راقية بخزان صفر من البنزين» وذلك وسط انقسام في طهران حول فاعلية الآلية المالية.
خلاصة
بيع النفط هو المطلب الإيراني الوحيد من اجتماع أطراف الاتفاق النووي. فإيران ترهن تفعيل الآلية الأوروبية بـ«ضرورة» بيع النفط الإيراني وفق رئيس البرلمان علي لاريجاني، وهذا أيضاً من بين الشروط التي حددها المرشد علي خامنئي، العام الماضي لبقاء بلاده في الاتفاق النووي إضافة إلى تعويض الأوروبيين خسائر إيران من العقوبات الأميركية.
هذا ما يؤكده الباحث والخبير الاقتصادي كامل وزني، فآلية «إنستكس» هي مجرد جرعة مسكنة، فخسائر إيران من منع تصدير نفطها بحسب الأميركيين تجاوزت خمسين مليار دولار. وبالتزامن، هناك ما يؤشر على أن إيران نجحت في الالتفاف على هذا المنع، كيف لا وهي التي رفضت تخفيض حصتها في «أوبك»، مع ما يعنيه ذلك من استمرارها في تصدير النفط، لكن طبعاً بأسعار تنافسية تتكبد من خلالها طهران خسائر غير قليلة نسبياً، لكنها مقبولة بالنسبة إلى الإيرانيين مقارنة بعدم التصدير نهائياً. ورغم هشاشة «إنستكس» تفضّل إيران السير فيها، لأنها تأمل من خلالها خروج أوروبا من العباءة الأميركية.
ويلفت وزني إلى أن أوروبا مهما كانت مقتنعة بضرورة الالتفاف على العقوبات الأميركية فإنها لا تستطيع إرغام الشركات الخاصة على ذلك، بالنظر إلى أن حجم التبادل التجاري بين هذه الشركات والولايات المتحدة هو أكبر بكثير مما هو مع إيران، وحين نتحدث عن مصالح الدول الاقتصادية تسقط كل الاعتبارات الأخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، مجمل الصادرات الإيرانية من البتروكيمياويات إلى أوروبا لا يتجاوز خمسة بالمئة بحسب وزني. كما أن للمسألة أيضاً وجهاً سياسياً، فاستمرار التواصل مع الأوروبيين يبعد عن العقوبات الأميركية على إيران، الصبغة الشرعية الدولية، بمعنى أن الحصار المفروض على إيران هو ذو وجه أميركي فقط.
واشنطن الغارقة في مستنقع التحدي المستمر مع طهران، لن تفوّت فرصة تستطيع من خلالها تشديد الخناق عليها، في ظل عدم رغبة الطرفين في المواجهة العسكرية المباشرة، لكن وبما يشبه الإجماع، الكل يعترف بأن إيران دولة وشعباً تمرّست في التعايش مع فكرة الحصار والعقوبات، برغم ما يعانيه المواطن الإيراني من ضغط اقتصادي كبير وتدنٍ غير مسبوق في القدرة الشرائية لديه.
لعبة شد الحبل متواصلة بين واشنطن وطهران، والكلام هنا ربما لا يتجاوز فكرة المزيد من العقوبات من جانب واشنطن التي تكاد تكون استنفدت وعن مزيد من التصلب والتشدد من جانب إيران. مآلات الصراع غير واضحة المعالم في ظل وجود التركيبة الحالية للإدارة الأميركية التي تعشق المفاجآت، وفي ظل استعداد غير متناهٍ من بعض العرب لتمويل أية مغامرة قد يرغب ترامب في خوضها، ورغبة إسرائيلية جامحة في تركيع إيران بأيدٍ أميركية. لكن، وبغض النظر عن شكل نهاية هذا الصراع بين طهران وواشنطن، فإنها ومن دون شك ستحمل معها خارطة جديدة للمنطقة.
Leave a Reply