وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
لا ينفك الكباش الأميركي الإيراني يلقي بظلاله على المنطقة برمتها، لما قد يتركه في حال انزلاق الأمور، نحو مواجهة عسكرية، من آثار مدمرة على كل الدائرين في فلك الدولتين، أو حتى على أولئك الذين تربطهم مجرد مصالح صغيرة بطرفي الأزمة.
العالم كله يترقب، ومحاولات مستمرة من هنا وهناك، لابتداع حلول ولو مرحلية، تشبه جرعة المسكّن وتسهم بنحو أو بآخر في تهدئة الأمور، أو على الأقل في الدفع باتجاه تأجيل الأزمة.
ردود فعل دولية على عودة التخصيب
فمنذ أن أعلنت إيران عودتها إلى تخصيب اليورانيوم وتجاوز الحد المنصوص عليه في الاتفاق النووي والحركة الدبلوماسية لم تهدأ، ولا سيما الأوروبية منها. الإطفائي الأوروبي بدأ مساعيه بتفعيل الآلية التجارية «إنستكس» مع إيران والتي تقبّلتها الأخيرة بهدف نزع الغطاء الدولي والشرعي عن العقوبات الأميركية، لتبقى أميركية بحتة، وسار فيها الأوروبيون لامتصاص الغضب الإيراني، وللحؤول دون اتخاذ طهران مزيداً من الخطوات التصعيدية، مع علم الأطراف الثلاثة (الإيراني والأميركي والأوروبي)بمحدودية نتائج تلك الآلية. وعلى الموجة نفسها سارت واشنطن، فاعتبرت أن العمل بـ«إنستكس» ليس تجاوزاً للعقوبات، وهو أيضاً ربما يسهم في تخفيف حدة التوتر الذي لا ترغب الولايات المتحدة في تصعيده على الأقل في المدى المنظور.
في مقدمة المواقف، الكرملين أعرب عن «قلقه» من قرار طهران البدء بتخصيب اليورانيوم بمستوى يحظره الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني، داعياً إلى مواصلة الحوار.
وأعلن المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، في مؤتمر صحافي أن روسيا تريد قبل كل شيء مواصلة الحوار وبذل الجهود على المستوى الدبلوماسي، متهماً الولايات المتحدة بأنها المسؤولة عن التوتر الحالي.
بالتزامن، سارع الأوروبيون إلى إدانة الخطوة الإيرانية، ودعوا طهران إلى التراجع الفوري عنها، وحضَّت الناطقة باسم الدبلوماسية الأوروبية مايا كوسيانسيتيش، إيران على وقف أنشطتها النووية التي تتعارض مع التزاماتها الواردة في نص الاتفاق النووي.
الصين بدورها قالت إن «استقواء» الولايات المتحدة هو السبب الرئيسي وراء تصعيد الأزمة النووية الإيرانية، بعد إعلان طهران تأهبها للتخلي عن الحد المسموح به في تخصيب اليورانيوم. وقال جينغ شوانغ، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، إن السبب الأساسي للأزمة النووية الإيرانية هو الضغط الشديد الذي مارسته الولايات المتحدة على إيران.
كما عبّرت الوزارة عن أسف بكين لقرار إيران زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، وأكدت أن حل المسألة النووية الإيرانية ينبغي أن يتم بالطرق الدبلوماسية، ودعت كل الأطراف إلى ضبط النفس.
أما في برلين فقد أعلن الناطق باسم الخارجية أن قلقاً يساور بلاده بشأن الخطوة الإيرانية مطالباً طهران بالعدول عنها.
بدوره، أدان الرئيس الفرنسي ما سمّاه تنصّل إيران من التزاماتها في الاتفاق النووي، وأجرى اتصالاً مطوّلاً مع نظيره الإيراني استمر أكثر من ساعة، أفضى إلى ما يشبه الاتفاق، ويقضي بتوفير الظروف الملائمة لعقد اتفاق بحلول الخامس عشر من تموز (يوليو)، لافتاً إلى أنه سيواصل محادثاته مع كل الأطراف المعنيين بوقف التصعيد، معترفاً أن الإجراءات الأوروبية للتعويض عن العقوبات الأميركية لم تكن كافية، ومؤكداً في الوقت عينه أن نهاية الاتفاق النووي تعني هزيمة جماعية، فيما أكد روحاني له أن الضغوط الاقتصادية الأميركية ضد الشعب الإيراني تُعد حركة إرهابية وحرباً اقتصادية «على الجميع صدها» وفق تعبيره، وأن الإجراءات التي اتخذتها بلاده قانونية، تاركاً الباب مفتوحاً أمام مبادرات الحل بالقول إن إلغاء العقوبات التي فُرضت على إيران يمكن أن يكون بداية لخطوة جديدة.
بريطانيا احتجزت الناقلة
بطلب من واشنطن!
بريطانيا، من جانبها، أعلنت أنها ستظل ملتزمة بالاتفاق النووي وستنسّق مع الأطراف الآخرين، مشددة على دعوتها لطهران بالتراجع عن خطوتها بزيادة التخصيب، وبلهجة لا تخلو من التهديد، تُرجمت لاحقاً باحتجاز ناقلة نفط إيرانية في جبل طارق، التي ذكرت حكومتها أن طاقم الناقلة المحتجزة « غريس 1» يُستجوب أفراده كشهود لا كمجرمين، في مسعى منها لتحديد طبيعة الشحنة ووجهتها النهائية وفق تعبيرها، علماً بأن المحكمة العليا في حكومة جبل طارق التابعة لبريطانيا وافقت على التمديد أربعة عشر يوماً لاحتجاز الناقلة الإيرانية، فيما أعلن وبكل وضوح وزير الخارجية الإسباني جوسيب بوريل أن الولايات المتحدة هي التي طلبت اعتراض الناقلة.
واشنطن التي رحّبت باحتجاز الناقلة الإيرانية واعتبرته عملاً ممتازاً، قال رئيسها دونالد ترامب إن إيران تفعل الكثير من الأشياء السيئة، وإن الطريقة التي تعمل بها توحي بسعيها إلى امتلاك سلاح نووي، لكنها «لن تمتلكه أبداً» مؤكداً أن العقوبات ستزيد وتشتد على إيران في الأيام المقبلة. ولكي يسبغ على قراراته ضد إيران الشرعية المطلوبة، اقترح على الأوروبيين إنشاء حلف عسكري جديد على غرار الناتو لحماية الممرات المائية، قاصداً بها مضيقي هرمز وباب المندب.
مزيد من الرسائل الإيرانية
وقبل أن تنتهي ذيول عملية احتجاز الناقلة الإيرانية في مياه الخليج، أعلنت بريطانيا أن ثلاث سفن إيرانية حاولت اعتراض السفينة البريطانية «هريتيدج» في مضيق هرمز، نبأ أكدته وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» وهو ما نفته إيران لاحقاً على لسان وزير خارجيتها الذي اعتبر أن زعم بريطانيا بشأن محاولة طهران احتجاز ناقلة نفط بريطانية لا قيمة له والهدف منه هو خلق التوتر.
لا شك في أن ما حصل الخميس الفائت في مياه الخليج، رسالة إيرانية مباشرة ولا تقبل التأويل، مفادها أننا هنا ونستطيع تعطيل الملاحة واحتجاز السفن مهما كانت هويتها إذا أردنا، لكننا لن نفعل ذلك الآن، فقط لأننا لا نريد ذلك ولا نجد التوقيت ملائماً.
طهران لم تحتجز الناقلة البريطانية، لكنها أوصلت رسالتها كما أرادت، ولا بد من أن الجميع قد فهمها. وفي السياق عينه، كان أمير حسين قاضي زادة هاشمي رئيس الكتلة النيابية الخاصة بالإجراءات الاستباقية لمواجهة التهديدات الأميركية، قد قال في مؤتمر صحافي يوم الأحد الماضي إنه إذا كانت إيران هي الحامي الحقيقي للمنطقة والمياه الدولية، ووفقاً للنهج والأعراف الدولية والأميركية، فإن البرلمان يعتقد أيضاً أن تكلفة ذلك يجب أن تُدفع من قبل المراكز التجارية وجميع السفن العابرة في المنطقة على شكل رسوم جمركية، وأوضح زاده هاشمي، أن هذه الرسوم لن تشمل السفن والمراكز التابعة للدول التي لم تعترف بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، مؤكداً أن طهران يمكنها تعيين سقف هذه الرسوم مع إمكانية رفعها أو خفضها أو إلغائها نهائياً بالنسبة إلى بعض الدول.
هي إشارة إضافية من طهران لتأكيد سيطرتها الحاسمة على مياه الخليج، وأن السلاسة التي كانت تسير عليها الأمور قد لا تستمر مع استمرار الضغط على الجمهورية الإسلامية، وهي التي كانت قد هددت مراراً بإغلاق مضيق هرمز في حال مُنعت من استخدامه.
تصريحات المسؤول البرلماني الإيراني تزامنت مع تصريحات رئيس منظمة الدفاع المدني في الحرس الثوري الإيراني، غلام رضا جلالي، التي كشف فيها أن الولايات المتحدة وعبر قنوات دبلوماسية –لم يحددها– بعثت برسائل إلى طهران قالت فيها إنها سترد بضربة محدودة في منطقة ليست ذات أهمية كبيرة، وذلك لحفظ ماء وجهها، طالبة من إيران عدم الرد، ولكن إيران أكدت أن أية ضربة قد تتلقاها ستعتبرها إعلاناً للحرب وسترد عليها.
زيادة طهران تخصيب اليورانيوم، حرفت عنها الأنظار نسبياً حادثة احتجاز بريطانيا ناقلة النفط الإيرانية، وهو ما عدّه الرئيس الإيراني عملاً سخيفاً وخاطئاً، متوعداً بريطانيا بعواقب وخيمة. وقد تلقّت إيران الخبر بغضب واضح، حيث استدعت خارجيتها السفير البريطاني، وأبلغته بأن ما جرى من احتجاز للناقلة أمر غير قانوني، وقد أجمعت تصريحات المسؤولين في طهران على اعتباره قرصنة، وأنه لا يعبّر سوى عن مزيد من التناغم المعتاد بين بريطانيا وأميركا.
وفي ما يشبه التهديد المباشر قال أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران إن لم تفرج لندن عن ناقلة النفط، فوظيفة الأجهزة المسؤولة، الرد بالمثل، وإن بلاده لم تتوانَ يوماً عن الرد على «البلطجيين»، في إشارة إلى بريطانيا.
نتنياهو والهاجس الإيراني
في زاوية هذه الصورة المزدحمة يقف متربصاً رئيس الوزراء الإسرائيلي، المسكون بهاجس النووي الإيراني، مطلقاً عبر إحدى القنوات الإسرائيلية تسجيلاً مصوراً يظهر فيه مُهدّداً إيران وخلفه في الصورة طائرات «أف 35»، في محاولة للإيحاء بأن الخيار العسكري ما زال على الطاولة، وبأنه لن يتردد في استخدامه. هي محاولة ضغط مماثلة لتلك المحاولات التي ترافقت مع مرحلة ما قبل الاتفاق النووي عام 2015، يوم كانت الذريعة وما تزال تحقيق الأمن الإسرائيلي في مواجهة الخطر الإيراني.
الخلاصة
تسلمت إيران الأربعاء الماضي رسالة من الرئيس الفرنسي نقلها مستشاره الرئاسي إيمانويل بون إلى روحاني، حيث أعلن الأخير أن بلاده ستبقي باب الدبلوماسية مفتوحاً، متمنّياً أن تؤدي الوساطة الفرنسية إلى تنفيذ بنود الاتفاق، فيما سيتوجه وزير الخارجية الإيراني إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تضغط إيران على زر رفع نسبة التخصيب بإحدى يديها وباليد الأخرى تفتح باب الدبلوماسية، وهي التي حرّرها ترامب من القيود التي فرضها عليها الاتفاق النووي من خلال خروجه منه، فبدل أن تنتظر عشر سنوات لتطوير برنامجها النووي، باتت اليوم قادرة على ذلك وبغطاء قانوني دولي، فهي حتى الآن لم تخرق القوانين الدولية ولم تتجاوزها، وهي أيضاً تستقبل المبعوثين الدوليين سعياً لإيجاد الحلول، وها هو اجتماع حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي عُقد يوم الأربعاء المنصرم لم يسفر عن أي نتيجة، وعلى الأقل هو لم يجرّم إيران. أما الرئيس الأميركي فقد استنفد كل أوراقه ضد طهران، وها هي تنازله في مختلف الساحات، من خلال «وكلائها» في سوريا إلى العراق فاليمن وصولاً حتى إلى لبنان.
وبالعودة إلى تسريب الرسالة الأميركية لطهران والذي أعقب إسقاط الطائرة المسيرة فوق منطقة الخليج، فإن اختيار هذا التوقيت لتسريبها ليس عبثاً، فطهران تريد القول إن كل التهديدات التي تطلقها واشنطن جوفاء وغير جدية، لأنها تدرك جيداً أن إيران ليست العراق ولا أفغانستان أو الصومال، وإنها لن تقبل بأية ضربة مهما كانت محدودة، وسترد عليها ولا تنوي الخوض في أية تسويات سياسية من تحت الطاولة وهي التي تملك الكثير من أوراق القوة وليس آخرها محاولة اعتراض السفينة البريطانية، فإظهار بعض القوة أمام الخصم قد يلجم تهوره أحياناً. فهل تصل الرسالة الإيرانية وتلقى صدى لدى إدارة ترامب؟ أم أن الأمور تسير نحو مزيد من التوتر والاستفزازات المتبادلة؟ كل الخيارات مطروحة على الطاولة.
Leave a Reply