وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
«لقد تم إحراز تقدم كبير في قضية إيران، ونحن لا نسعى إلى تغيير النظام في إيران، لكن عليها الخروج من اليمن». هذا ما صرّح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال اجتماع حكومته يوم الثلاثاء الماضي، من دون ذكر أية تفاصيل.
كذلك أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن إيران مستعدة للتفاوض بشأن برنامجها الصاروخي، وهو ما نفته طهران بشدة لاحقاً.
إذاً هي مفاجأة من العيار الثقيل، وتعطي دفعاً مطلوباً للمبادرة الفرنسية. ولكن ليس مستغرباً أبداً أن يُتبع الرئيس الأميركي تصريحه، بعد سويعات قليلة، بتغريدة تنسف كلامه جملة وتفصيلاً، وربما لا يفعل. لا أحد يعرف ما الذي يدور في رأس دونالد ترامب الذي لا يمل من خلط الأوراق والعبث بها.
«قرصنة» بريطانية ومبادرة فرنسية
بالعودة إلى مسار الأزمة وبجردة سريعة نجد أن «قرصنة» ناقلة النفط الإيرانية على حد تعبير طهران لا تصب في إطار التهدئة و«التقدم الكبير» الذي ألمح إليه ترامب، بالنظر إلى الفارق الزمني القصير بين الموقفين.
فالقاصي والداني بات يعلم أن الناقلة الإيرانية جرى اقتيادها بطلب أميركي. وليس هذا فقط، بل أتبعت بريطانيا فعلتها بإرسال بارجة حربية إضافية إلى مياه الخليج، بزعم الإسهام في توفير المزيد من الأمن والحرية للملاحة البحرية في المنطقة. والحديث يدور أيضاً عن إرسال سفينة ثالثة، علماً بأن هذه المشاركة إذا ما انضمت إليها كل من فرنسا وألمانيا فإنها تكاد تكون محاولة لاستدراج حرب في المنطقة.
إن توزيع أدوار أوروبي واضح: بريطانيا تصعّد على الأرض، وفرنسا بشخص رئيسها تطرح مبادرة للحل، في محاولة لفرملة خروج إيران المتدرج من الاتفاق النووي وتجنب المواجهة.
إيران من جهتها لا يفوتها رصد توزيع الأدوار هذا، فهي ترد على التصعيد بالتصعيد، وعلى مساعي التهدئة والحل بالانفتاح والترحيب، فهي أيضاً تتقن اللعب في ميدان التوازنات الدولية، وفي غنى عن مزيد من العزلة.
وفيما يتعلق باختطاف ناقلة النفط الإيرانية، مسؤولون إيرانيون كثر تناوبوا على تحذير بريطانيا من تلقي صفعة كبيرة وغير ذلك من التهديدات عالية النبرة، التي يسارع مسؤولون إيرانيون إلى إطلاقها مع كل توتر يستجد في المنطقة، فهم يعتبرون أنفسهم في موقع المستهدف دائماً، مما يحتم عليهم أن يكونوا على جهوزية عالية ودائمة.
في السياق عينه، هدد قائد في الحرس الثوري باحتجاز ناقلة بريطانية رداً على احتجاز الناقلة الإيرانية، وهو التهديد نفسه الذي ردده أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي.
على الأثر، سارعت بريطانيا إلى القول إنها لا تريد التصعيد مع إيران، وإن ما حدث من توقيف للناقلة وطاقمها هو بسبب الاشتباه في خرق العقوبات المفروضة على سوريا. ولاحقاً أُفرج عن أفراد الطاقم الأربعة بكفالة ومن دون توجيه أية تهمة إليهم، في بادرة تهدئة ربما في مقابل التهديد الإيراني الشديد اللهجة، مع إبداء استعداد بريطاني للإفراج عن الناقلة أيضاً. ترافق ذلك مع عقد اجتماع للاتحاد الأوروبي في فيينا، حيث جرى الإعلان في بيان مشترك عن استمرار الالتزام بالاتفاق النووي، وإنه حان الوقت للبحث عن سبيل لوقف تصعيد التوتر والعودة إلى المباحثات. وها هي الشركات الفرنسية مثل «رينو» و«بيجو» و«سيتروان» وشركة النفط العالمية «توتال» تضغط على الرئيس ماكرون حتى لا تُقفَل أمامها السوق الإيرانية العريضة.
مضمون المبادرة الفرنسية
خفّ منسوب التوتر قليلاً مع خطوة الإفراج عن الطاقم الإيراني، علماً بأن ظريف كان قد أكد لنظيره البريطاني أن الناقلة لم تكن متجهة الى ميناء بانياس في سوريا، بالرغم من أن «طهران غير معنية بالعقوبات على سوريا لأنها أحادية ولم يوافق عليها مجلس الأمن الدولي وأنها أيضاً –أي إيران– سترسل نفطها إلى أي بلد تريد».
هذا الموقف لظريف تزامن مع بروز المبادرة الفرنسية، التي تضمنت بحسب مصادر صحفية عدداً من البنود، تقول باريس إنها تلقّت تشجيعاً إيرانياً للسير فيها، من دون الحصول على رد واضح بقبولها أو رفضها.
ومن أبرز ما تضمنته المبادرة الفرنسية هو عودة إيران إلى الالتزام بالاتفاق النووي وتقديمها بعض التنازلات في أماكن نفوذها ولا سيما في العراق، والطلب إلى أصدقائها الحوثيين التوقف عن استهداف المدن السعودية بالصواريخ والطائرات المسيرة، إضافة إلى تقليص قواتها العسكرية وقوات «حزب الله» في سوريا.
هذه المبادرة يُرجّح أنها ستظل حاضرة في سوق التداول السياسي إلى حين موعد قمة الدول السبع التي ستنعقد في فرنسا حيث سيجري تقييمها في لقاء بين الرئيسين ترامب وماكرون، الذي كان أجرى في وقت سابق اتصالاً بروحاني سأله خلاله عن إمكانية عودة إيران إلى التزاماتها في الاتفاق النووي فرد عليه روحاني بالتأكيد يمكن ذلك شرط عودة واشنطن الى الاتفاق ورفعها العقوبات وهو ما أعلنه لاحقاً في أحد خطاباته.
استياء أوروبي من الموقف البريطاني
الدبلوماسي الإيراني السابق هادي أفقهي وفي اتصال مع «صدى الوطن» قال إن ثمة استياء في أوساط الأوروبيين من الارتماء البريطاني المبالغ فيه في الحضن الأميركي، من دون مراعاة للمصالح الأوروبية التي تمثل إيران بالنسبة إليها سوقاً كبيرة، وتجلّى ذلك بوضوح لحظة تفجير الناقلتين اليابانيتين في مياه الخليج حيث تبنّت لندن الموقف الأميركي من ألفه إلى يائه، مستبقة أي تحقيق في الأمر، وسارعت يومذاك الى اتهام إيران مباشرة.
مصير المبادرة المتوقع
يحاول الفرنسي والذي لطالما لعب دور الشرطي السيء، بحسب أفقهي، أن يأخذ موقفاً متقدماً عن بقية الأوروبيين، وهو لا شك في أنه يحاول بذلك حجز مقعد لبلاده في الصفوف الأمامية في حال عودة الاستثمارات الى البلد المحاصر.
وعن مصير المبادرة الفرنسية يجزم أفقهي بأنها معدومة الجدوى، وهي تحمل عناصر موتها في داخلها، فالموقف النهائي إزاء الأزمة برمتها أعلنه كل من المرشد الإيراني خامنئي والرئيس روحاني ويتلخص بجملة واحدة: الانتهاك مقابل الانتهاك والالتزام مقابل الالتزام والتراجع مقابل التراجع. وبحسب رأيه، يرى الدبلوماسي السابق أن إيران استوعبت إلى الآن كل الضربات التي تلقتها، من عقوبات اقتصادية وعزلة سياسية وحرب نفسية، مضيفاً أنها ما زالت تصدر نفطها وإن بأسعار تنافسية، بمعنى أنها تجاوزت السعي الأميركي إلى تصفير صادرات نفطها، وما زالت أيضاً تمتلك حلفاء لا يُستهان بهم من روسيا إلى الصين وصولاً إلى حركات المقاومة الممتدة أذرعها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ويؤكد أفقهي أن أميركا باتت هي المحرجة اليوم، فإسقاط الطائرة المسيرة الأميركية قلب المعادلة، وفاجأت إيران العالم كله بامتلاكها هذا النوع من الصواريخ الذي أسقطت بواسطته الطائرة، ما دفع واشنطن إلى مراجعة حساباتها من أجل عدم الانزلاق الى حرب لا تضمن نتائجها، أيضاً وفق تعبير أفقهي.
تصعيد إيراني
المرشد الإيراني علي خامنئي وخلال لقائه أئمة الجمعة في طهران، الثلاثاء الماضي، قال إن الجمهورية الإسلامية لن تترك سرقة ناقلة النفط من قبل بريطانيا من دون رد، مضيفاً أن بلاده سوف ترد على قرصنة ناقلة النفط الإيرانية عندما تأتي الفرصة والمكان المناسبان.
وتوجّه خامنئي إلى الأوروبيين بلهجة لا تخلو من التحدي، معلناً مواصلة بلاده تقليص التزامها بالاتفاق النووي، وأنها نفذت جميع التزاماتها في الاتفاق، بينما انتهك الأوروبيون أحد عشر التزاماً فيه، مؤكداً أن طهران لن تضعف أمام الضغوط الأوروبية والأميركية.
وفي موقف لافت وحاد للرئيس الإيراني حسن روحاني، وهو المعروف باعتداله نسبياً، قال إن الأميركيين هُزموا في مواجهة إيران، وإن بلاده قررت تغيير سياستها من الصبر الاستراتيجي إلى اتخاذ الإجراء المتبادل: الانتهاك مقابل الانتهاك، والالتزام مقابل الالتزام، والتراجع مقابل التراجع. ولم يغفل روحاني الإشارة إلى اعتراف عدوّيه اللدودين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأنهما من ضغطا على ترامب للخروج من الاتفاق النووي.
محمد جواد ظريف رأس الدبلوماسية الإيرانية وأبرز وجوه السياسة الخارجية الإيرانية منذ عقود، والذي كانت واشنطن قد هددت بفرض عقوبات عليه ثم عادت ومنحته تأشيرة دخول إلى أراضيها، أعلن من نيويورك التي وصلها يوم الأحد للمشاركة في اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، أعلن أن على أميركا أن تعود إلى الإجماع الدولي، مؤكداً أنه في حال نشوب حرب في المنطقة، فإن أحداً لن ينجو منها بما في ذلك إسرائيل، فيما يُقرأ على أنه رسالة مباشرة إلى تل أبيب. وكانت واشنطن قد قيّدت حركة ظريف بالتنقل بين مقر الأمم المتحدة وبعثة بلاده والمطار، معتبرة أنه إجراء مماثل للإجراءات التي يخضع لها الأميركيون في إيران.
هل بدأ مسلسل اختفاء الناقلات؟
بعد سلسلة المواقف هذه من قبل معظم الأطراف، برز تطور ميداني لافت تمثل باختفاء ناقلة نفط إماراتية، حيث أُعلن الثلاثاء الماضي عن اختفاء ناقلة نفط أثناء عبورها مضيق هرمز. وبعد ساعات من شيوع أنباء عن أن ملكيتها تعود إلى الإمارات، خرجت الأخيرة لتنفي ذلك، وأعلن مسؤول إماراتي أن بلاده في صدد مراقبة الوضع عن كثب مع شركائها الدوليين.
وذكرت تقارير أن بيانات التتبع أظهرت اختفاء ناقلة نفط إماراتية في المياه الإيرانية منذ عدة أيام، بينما كانت تمر عبر مضيق هرمز، فيما أكد مسؤولون أميركيون أنهم يشتبهون في أن إيران قامت بالاستيلاء على الناقلة، وترددت معلومات حول أن الولايات المتحدة حصلت على تقارير من مصادر إماراتية تفيد بأن ناقلة النفط «ريا» التي اختفت في الخليج تعرضت لعطل وسُحبت نحو إيران لإصلاحها. ولم يعلّق المسؤولون الإيرانيون سريعاً على الحادث، لتعلن لاحقاً وزارة الخارجية الإيرانية أنه تم سحب ناقلة نفط تعرضت لعطل تقني في الخليج إلى المياه الإيرانية، مشيرة إلى أن القوات الإيرانية قامت بسحب الناقلة حتى يتم إصلاح أعطالها.
ويوم الخميس الماضي، أعلن حرس الثورة الإيراني أنه احتجز سفينة أجنبية قرب جزيرة «لارك» بعد أخذ الموافقة من المراجع القضائية، وعلى متنها اثنا عشر شخصاً، وأشار التلفزيون الإيراني في ما بعد، إلى أن الإمارات رفضت الإعلان عن ملكية الناقلة بالرغم من أن واشنطن ولندن طلبتا منها ذلك، تجنباً لتوتير الأجواء مع طهران، ولفت التلفزيون الإيراني أيضاً إلى أن الناقلة كانت ترفع العلم البريطاني وتحمل مليون ليتر من الوقود المهرب، وأنها كانت في طريقها لنقل الوقود إلى سفن أجنبية. وبعد وقت قصير من الإعلان عن احتجاز الناقلة المذكورة، أعلن المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني حسين نقوي أنه إن لم يكن تصدير النفط آمناً لإيران فإنه لن يكون آمناً لأحد، وأن بلاده تسيطر على الأوضاع في الخليج بنحو كامل.
إيران بما تفعله تعتبر نفسها تحت مظلة القانون الدولي ولم تخرقه البتة، على عكس ما حصل للسفينة الإيرانية من «قرصنة» تتهم بها بريطانيا وفق الرؤية الإيرانية.
قد يقف الأمر عند هذا الحد، بالنظر إلى عدم رغبة أي طرف بالتصعيد، لكن طهران ومن جانب آخر، تريد القول للجميع: انظروا أنا هنا أستطيع أن أحتجز أية ناقلة نفط وفي أي وقت إذا ما أردتُ ذلك. وقد يكون في نية طهران مقايضة لندن، عملاً باستراتيجيتها الجديدة التي توعدت بها وهي المبادلة بالمثل، ولتلفت أيضاً إلى مدى جديتها في تنفيذ ما هددت به مراراً وتكراراً وإلى قدرتها على تنفيذه إذا ارتأت ذلك فعلاً.
خلاصة
إذاً ومع نفاد بنك الأهداف الأميركي، ومع انتقال إيران من مرحلة الصبر الاستراتيجي إلى مرحلة الرد بالمثل، على حد تعبير الدبلوماسي الإيراني السابق هادي أفقهي، تبدو أسهم وقوع المواجهة الميدانية في تراجع مستمر، هذا إذا تجاوزنا عقدة الانتخابات الأميركية التي يواجهها ترامب، والتي تحول دون إقدامه على أية خطوة عسكرية ضد طهران لأنها بالتأكيد ستطيح آماله ببلوغ ولاية رئاسية ثانية.
لكن السباق يظل محموماً بين مبادرات التهدئة والألغام المتفجرة بين الحين والآخر، والتي تعيد الأمور في كل مرة إلى المربع الأول، فترتفع حدة التوتر من جديد، لتجعل المشهد سريالياً مجهول النهايات. لكن تصويت ٢٥١ نائباً من أعضاء الكونغرس الأميركي «في قرار غير ملزم» على منع الرئيس من شن حرب على إيران من دون موافقة الكونغرس، مقابل ٧١ صوّتوا ضد الحظر، يشي بوجود شيء من التعقل لدى جزء من الأميركيين ممن يقدّرون حجم الحرب وتكاليفها المرتفعة.
سياسة الضغط المتواصل لم تجدِ نفعاً، فهل يغلب صوت العقل ويلتقي المتخاصمون حول طاولة المفاوضات؟ كل الأمل أن يفعلوا قبل وقوع الكارثة، فمن لا يستطيع أن يكسب السلام لا يستطيع أن يكسب الحرب.
Leave a Reply