كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يعيش لبنان أزمة داخلية، طابعها الظاهر حكومي مع تعثر انعقاد مجلس الوزراء للبت بقضية حادثة قبرشمون والجهة القضائية التي ستحكم بها، لكن حقيقة الأزمة أعمق من ذلك بكثير، إذ تتعلّق بجوهر النظام السياسي والتوازنات الطائفية التي أرساها دستور الطائف وصولاً إلى الملفات الاستراتيجية المتعلقة بسلاح المقاومة ودور الجيش اللبناني وقرار الحرب والسلم، مروراً بالعلاقات مع الدول العربية، وموقع لبنان من صراع المحاور الإقليمية والدولية، وموقفه من أزمات المنطقة، كما في التواصل مع الحكومة السورية.
أزمة صلاحيات
ظهر النقاش حول صلاحيات رئيس الحكومة، بعد التسوية الرئاسية التي حصلت بين «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، وأوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وأعادت سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. فقد احتفل «التيار الوطني الحر» بانتخاب «رئيس قوي» يمثل الشريحة الأوسع من المسيحيين، تحت شعار «الحق يعود لأصحابه»، وهي النظرية التي سوّقها الوزير جبران باسيل، بأن يتولى الأقوى تمثيلاً في طائفته موقع السلطة في الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والحكومة) وسط تنازع الزعماء الأقوى طائفياً حول الصلاحيات استناداً إلى بنود الدستور أو الأعراف التي هي بقوة الدستور في لبنان، لتبرز أزمة صلاحيات قابلة للتفاقم عند أي منعطف. إذ شرعت قيادات سُنّية، ضمت رؤساء حكومة سابقين، إلى اتهام رئاسة الجمهورية بالانتقاص من صلاحيات رئيس الحكومة سعد الحريري من خلال التفاهم الذي أقامه مع باسيل والذي دفعه إلى التنازل في عدة ملفات، سواء في التعيينات أو في مسألة إدارة جلسات الحكومة وتحديد جدول أعمالها.
باسيل متهم سنياً بتزعم الحكومة عملياً عبر تمرير المشاريع التي يريدها، ومنها ما يتقاسمه مع فريق الحريري المتمسك برئاسة الحكومة، لتأمين مصالحه، وفق الاتهامات الموجهة له من خصومه السياسيين، ومنهم مسؤولون في «تيار المستقبل»، وحلفاء سابقون كرئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، الذي يعلن بأن الحريري يتنازل أمام باسيل مستدلاً بتصريح نسب للأخير بأن «السّنّية السياسية» جاءت على جثة «المارونية السياسية»، لتشتعل حرب سياسية على باسيل وسط مواقف إدانة من مراجع سياسية وروحية سنّيّة أشارت إلى أن ثمة محاولة للانقلاب على اتفاق الطائف، الذي حول –قبل ثلاثة عقود– منصب رئيس الحكومة السنّي من مجرد «باش كاتب» عند رئيس الجمهورية الماروني، إلى شريك كامل في الحكم، يتولى منصبه بموجب استشارات نيابية ملزمة لرئيس الجمهورية الذي كان في السابق (قبل الطائف) يختار رئيس الوزراء من دون استشارة أحد.
ومن أكثر ما أثار «المستقبليين» المعارضين والحلفاء السابقين للتيار الأزرق، تشكيلة الحكومة الحالية التي وجدوا فيها تجاوزاً لاتفاق الطائف وضعفاً للحريري أمام طلبات الرئيس عون وصهره باسيل، لاسيما في خضوعه لمطلب «حزب الله» بتوزير سنّي من خارج «تيار المستقبل» بما يعكس التمثيل النيابي للشارع السني في لبنان بحسب نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.
مصير الطائف
وأمام أداء الرئيس الحريري التنازلي، بدأ حراس اتفاق الطائف الذي رعته السعودية قبل نحو 30 عاماً، بالتوجس من محاولات فعلية للإطاحة به، لاسيما أن الرئيس عون لم يكن يوماً من المؤيدين له، وإن هادنه وسلّم به لإسقاط «الفيتو» السعودي ضد وصوله إلى سدة الرئاسة قبل عامين ونيّف.
وينص دستور الطائف على صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة وتقليص لصلاحيات رئاسة الجمهورية، إلى جانب تعزيز دور رئيس مجلس النواب، بانتخابه لدورة نيابية كاملة بدلاً من سنة واحدة كما كان معمولاً به قبل الحرب الأهلية.
وأمام ما يطرح اليوم من شعارات من قبيل «استعادة الحقوق المسيحية» و«المثالثة» و«صياغة عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين»، يخشى أقطاب السنة والسياسيون في الرياض من أي تغيير في بنية النظام اللبناني الذي أرساه دستور الطائف مطلع التسعينيات، وجعل للسعودية موقع نفوذ في لبنان بعد الحرب الأهلية التي يتم التلويح بها في كل مرة يجري فيها نقاش عن ضرورة تعديل اتفاق الطائف أو على الأقل تطبيقه بالكامل.
فقد دعا البطريرك الماروني بطرس الراعي، إلى عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين كما تحدث السيد حسن نصرالله عن المثالثة، في حين أسفر فرض «الثلث المعطل» في الحكومة بعد أحداث 7 أيار 2008، عن إحداث انقلاب فعلي في موازين الحكم، فلم تعد الأغلبية (قوى 14 آذار) صاحبة القرار في الحكومة كما كان معهوداً، وقد تمّت ترجمة ذلك عملياً باستقالة 11 وزيراً من حكومة سعد الحريري مطلع 2011، فاعتبرت مستقيلة حكماً وفق الدستور، لتكر من بعدها سبحة خسائر «14 آذار»، وصولاً إلى التسوية الرئاسية، التي أتت بمرشح «8 آذار» إلى رئاسة الجمهورية، وهو ما أغضب قيادة المملكة السعودية التي بدأت تشعر بفقدان الساحة اللبنانية لصالح حلفاء إيران فتم استدعاء الحريري واحتجازه في خريف 2017، ولم يسمح له بالعودة إلى لبنان إلا بتدخل دولي–إقليمي حركه الرئيس عون بنفسه من خلال رفضه للاستقالة التلفزيونية التي أرغم الحريري على تلاوتها من مكان احتجازه في الرياض.
المناصفة
وفي الوقت الذي تفتح فيه مسألة صلاحيات رئيس الحكومة، ويكثر فيه الحديث عن محاولة الانقلاب على اتفاق الطائف، جاءت المادة 80 من قانون الموازنة الأخيرة لتؤجج النقاش، بالسماح بتوظيف المرشحين الناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية بالإدارات التي تقدموا لها، بغض النظر عن التوازن الطائفي، أو ما يسمى «المناصفة» بين المسيحيين والمسلمين بحسب دستور الطائف الذي ينصّ أيضاً على تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وهو بند لم يبصر النور قط، كما بنود أخرى ظلت قيد التجاهل منذ البدء بتطبيق اتفاق الطائف، مثل إلغاء طائفية الوظيفة، باستثناء الفئة الأولى التي يعتمد فيها المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، كما في مجلس النواب، ومجلس الوزراء.
بدوره، وافق «التيار الوطني الحر» مضطراً على المادة 80 من قانون الموازنة تجنباً لمزيد من التأخير في إقرارها، لاسيما مع تصاعد ضغوط الدول المشاركة في مؤتمر «سيدر» الذي أقيم بفرنسا لدعم لبنان اقتصادياً ومالياً.
لكن توقيع عون على الموازنة لم كتلته النيابية، «تكتل لبنان القوي»، عن تقديم اقتراح قانون لإعادة البحث في هذه المادة، لأنها لا تراعي المناصفة، في وقت أرسل فيه رئيس الجمهورية رسالة إلى مجلس النواب، يطلب تفسيراً للمادة 95 من الدستور، طالما لم يحصل تعديل لها بإلغاء الطائفية السياسية. في حين هدد الوزير باسيل باللجوء إلى «خيارات أخرى»، إذا لم يتم الالتزام بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين في الوظائف العامة، لاسيما الأسلاك العسكرية والأمنية، لكن المشكلة بالنسبة للمسيحيين تكمن في أنهم لا يتقدمون إلى هذه الوظائف بنفس أعداد المسلمين، خاصة وأن موجات الهجرة إلى الخارج أنقصت نسبتهم إلى نحو 30 بالمئة من سكان لبنان.
تكريس الطائفية
ثلاثة عقود مرت على اتفاق الطائف، ويبدو أن الطائفية تتكرّس وتترسخ في العمل السياسي بلبنان، بدلاً من إلغائها، بعدما تسببت بنزاعات وأزمات لا تنتهي، مع لجوء الطوائف إلى الحماية الخارجية منذ العام 1860، حين أرسى قناصل الدول الكبرى نظام الطوائف الأول في لبنان، ثم بدستور الاستقلال الطائفي الذي خلفه الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى دستور الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية وتعهد بإلغاء الطائفية السياسية، غير أنه في الواقع رفع من حدتها، بل ولّد لاحقاً، المذهبية السياسية حتى بات على كل زعيم سياسي في لبنان اليوم، التحدث والمطالبة بحقوق طائفته ومذهبه حصراً، وهذا مؤشر خطير يدل على فشل النظام السياسي وغياب مفهوم المواطنة الذي تقوم عليه الدول العصرية.
Leave a Reply