تتنقل بين قضايا العالم عبر نافذة صغيرة. نافذة، قد تفتحها على ثقافات متنوعة في مدينة ديربورن، وقد تراها عبر شاشتك الإلكترونية المتنقلة معك، وصولاً إلى مدينة ممتلئة باللامتناهيات والعشوائيات المنظمة كمدينة نيويورك. تتشابك الأحداث المتفرقة… عمليات قتل جماعي متنقلة على الخارطة الأميركية… قرار في إيطاليا يجرم مساعدة المهاجرين غير الشرعيين… شعارات القرون الوسطى تعود مع خطاب اليمين المسيحي المتشدد من لبنان إلى النروج، بينما يتموضع التطرف الإسلامي –بكل أنواعه– قريباً من قمة السلطة، وتتحالف حيتان المال مع مرتزقة السياسة تحت عنوان المصلحة… هنا، لا بد أن تتحرك بداخلك الحشرية التاريخية لتحاول فهم العالم من جديد.
كل تلك الضجة ترافقها أغنية شعبية تصدح في وسط مانهاتن: «زحمة يا دنيا زحمة». زحمة تاه فيها العقل… لنبدأ من جديد!
خلال زيارتي الأولى لمدينة نيويورك تنقلت بين عدة متاحف ومكتبات ومراكز فكرية وثقافية وترفيهية. شاهدت نشاطات متفرقة في الشوارع والحدائق العامة. تعرفت وخضت حوارات مع مجموعة من الناشطين والأكاديميين العرب النيويوركيين الذين رافقوني في رحلتي ما بين القطار، الشارع، المبنى، الحديقة، المطعم التركي، القهوة الكينية، اليوغا الآسيوية والمقابر العالمية في الضواحي.
جلست على طاولة واحدة مع أميركيين من أصقاع الأرض: أندونيسي، روسي، فلسطيني، هندي، لبناني، باكستاني، أوزبكي، عراقي، مصري، تونسي، يمني، صومالي، سوداني، ألباني.. جلسة يصلح أن يكون لها نشيد وطني باسم الأرض. كنشيد مارسيل خليفة: «كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر».
ولكن مهلاً، كل تلك الجماليات والرومنطيقيات لا تطعم الطائر الجائع حبّة. قد تمدّه بالروح والشغف وتحرّك خياله وتفتح أمامه الآفاق، لكنها لا تطعمه خبزاً. فاجتمعنا على طاولة طعام. وبعد نقاشات صالت وجالت تموضعنا حول نقطة رئيسية: هل عدنا إلى القرون الوسطى بحلة جديدة؟ هل نعلن الحرب على صناع الخوف والحروب؟ بالطبع لا. لأن الحرب هنا هي معركة مع الذات أولاً. مواجهة بين خلايا الدماغ التي عبدت الشمس وقدّست القمر وحنطت الموتى وبنت الأهرامات ووضعت رؤوس الحيوانات على أجسام بشر…
دماغ حول أصنام خياله إلى أحجار ملموسة، ثم حطّم تلك الأحجار ليعيد نحتها أصناماً جديدة ليعبدها. هنا تفهم «كوجيتو العرّاب»: «أنا أصنع الأصنام إذن أنا مسيطر»، (بالإذن من «كوجيتو ديكارت»: أنا أفكر إذن أنا موجود).
لكن مهلاً مرة أخرى، هل لتلك الأصنام والأوهام سلطة أبدية علينا؟ بالطبع لا. فكما حطمت مطبعة غوتنبرغ سلطة صكوك الغفران وكما ساهم الإنترنت بنشر المعرفة.. للتاريخ أساليبه في إيقاظ أهل الكهوف وإخراجهم من الظلمة إلى النور.
وبالحديث عن النور، تعلّق الحوار مع سؤال النادلة التركية لنا: «قهوة أو شاي»؟ فأسرتنا بابتسامتها المشرقة وبريق عينيها، بعدما أسرتنا سلطنتها العثمانية قروناً في الظلمات.
أثناء التنقل في شوارع «التفاحة الكبيرة»، ترى أمامك شعوباً تسير على أقدامها، وكأن الأرض حشرت في مانهاتن. وجوه من كل الألوان والأشكال، متاجر ضخمة ولوحات إعلانية عملاقة تضيء ليل «تايمز سكوير» كوضح النهار.
الميدان المكتظ دائماً، ساحة في قلب غابة إسمنتية دقيقة التنظيم: التنوع رهيب، الحركة فيها تسابق الزمن، راقصون ممثلون رسامون فلاسفة ومُشردون ورجال شرطة وصور سيلفي لا تنتهي… إنها «ملتقى العالم» أو «محور الأرض». يزورها ما يقرب من 50 مليون سائح سنوياً وأكثر من 330 ألف شخص من كل الأجناس كل يوم.
وبعد أن تلمس بحواسك عظمة البشر في البناء والتنظيم، يذكرك «المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي» في مانهاتن، كم أنت صغير بجانب الديناصورات وتاريخ الأرض والإنسان القديم. هنالك يمكنك مراقبة التطور بدقة وأدلة علمية في المتحف الذي يضم ما يزيد عن 33 مليون عيّنة من الإنسان والحيوانات والنباتات والأحافير والصخور، من فترة ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا.
محطات تتنقل بينها في طريق العودة إلى ديربورن، محاولاً استنباط سنن التاريخ وأبعادها. أبعاد ينسجها المكان والزمان، ما بين الماضي والحاضر والمستقبل والوطن الأم والوطن الجديد، فينبعج زمكان أينشتاين مجدداً، لكن ليس باسم الكون والفيزياء هذه المرة، بل في ذهنك وفق مبدأ: «أنا أصنع الأصنام إذن أنا المسيطر»، فيبدأ بإطلاق النار الجماعي… على الأفكار والمفاهيم البالية هذه المرة.
Leave a Reply