وفيقة إسماعيل
بعد موجة من التفاؤل اجتاحت الأروقة السياسية حول بوادر انفراجة قريبة في الأزمة الإيرانية الأميركية، عادت الأمور إلى المربع الأول، وسرعان ما تبددت تلك الأجواء وانقلبت إلى عاصفة من التجاذب والضغوط والاتهامات المتبادلة وارتفاع في نبرة التحدي. لماذا حدث ما حدث؟ لماذا توقفت عجلة مبادرة ماكرون من جديد؟ ولماذا تراجع الرئيس روحاني عن موقفه وعاد إلى استخدام اللهجة الحادة والمتشددة؟
ظريف في قمة السبع
بعد كباش طويل على مدى الأشهر الماضية إثر انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وما تبعه من عقوبات فُرضت على إيران، وكاد ذلك الكباش أن ينزلق أكثر من مرة إلى حد المواجهة المباشرة، خرجت من الإليزيه ملامح تسوية بأحرفها الأولى ربما كانت لتسهم في إنهاء تلك الأزمة.
أولى الإشارات كانت من خلال وصول وزير خارجية طهران محمد جواد ظريف المفاجئ على متن طائرة خاصة إلى بياريتز، حيث التقى على هامش قمة الدول السبع، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لو دريان، وناقش معهما القضايا ذات الاهتمام المشترك وتعهدات أوروبا بشأن الاتفاق النووي، بحسب ما أفادت به وكالة «مهر» الإيرانية للأنباء.
طرح ظريف بعض مطالب طهران التي يجب أن يُستجاب لها قبل الحديث عن أي عملية تفاوض. وقد تردد أن حضور وزير الخارجية الإيراني المفاجئ إلى بياريتز كان بطلب شخصي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتنسيق مع ماكرون، وهو ما نفاه بعض الإعلام الأميركي، أما ترامب فقد أجاب لدى سؤال الصحافيين له عن زيارة ظريف المفاجئة: ليس لدي أي تعليق.
وكان الرئيسان الفرنسي والأميركي قد اجتمعا إلى مائدة غداء ثنائية لم تكن مقررة في فندق «أوتيل دو باليه»، استمرّت ساعتين بحسب الإليزيه، في محاولة لتسوية بعض الخلافات.
ثمة حديث دار عن السعي إلى عقد لقاء بين ظريف وبومبيو، لكن اللقاء لم يحصل بين الرجلين. الرئيس الإيراني حسن روحاني بنفسه، أعلن استعداده للقاء أي شخص كان، دون أن يستثني أحداً، وفي أي مكان، إذا كان ذلك يخدم مصلحة بلاده. مصادر الإليزيه رفعت سقف تفاؤلها انطلاقاً من كلام روحاني، إلى حد الحديث عن إمكانية عقد قمة بينه وبين وترامب خلال الأسابيع المقبلة، في انعكاس واضح للأجواء الإيجابية التي سيطرت على محادثات ظريف وماكرون. فمن البديهي أن يكون ظريف هو من حمل الرسالة إلى الرئيس الفرنسي، كما رشح أيضاً أن ظريف طالب ماكرون برفع حجم كمية النفط الإيراني المسموح بيعها من ٧٠٠ ألف برميل إلى ٢.٢ مليون ومئتي ألف، وهو «ما لقي تجاوباً من الأميركيين»، إلى أن قال ماكرون بنفسه: «الظروف باتت مهيأة للقاء الرجلين»! وهو طبعاً يقصد روحاني وترامب.
حتى ترامب نفسه عبّر عن ثقته بأن روحاني يريد اللقاء وتسوية الأزمة.
وفي ما يتعلق بمضمون المقترح الفرنسي، فقد ألمح إلى بعض تفاصيله كل من ماكرون وترامب، إذ أشاد الأول برسالة روحاني، واعتبرها تغييراً حقيقياً، مع الإشارة إلى أن المطالب الأميركية تشمل إطالة مدة الاتفاق النووي وإخضاع المزيد من المواقع للمراقبة. أما ترامب، فقد تحدث عن رفضه شرط دفع تعويضات عن العقوبات، قائلاً ما حرفيته: «نحن لا ندفع… لكنهم (الإيرانيين) ربما يحتاجون إلى بعض المال ليتمكّنوا من تدبير أمورهم في ظل أوضاع صعبة، وإذا احتاجوا إليه، فسيكون ذلك بضمانة النفط، وهو لي ضمانة كبيرة، ولديهم الكثير منه… لذلك نتحدث عملياً عن خط ائتمان سيكون من دول عديدة».
الجدير ذكره هنا أن الإيرانيين رفضوا الحديث عن برنامجهم الصاروخي الباليستي بالمطلق وأبلغوا ماكرون بذلك.
روحاني وتجاوز الخط الأحمر
هذه الأخبار التي جرى تداولها نزلت كالصاعقة على رؤوس بعض الإيرانيين. كيف لا وهم يسمعون وزير خارجيتهم ورئيس بلادهم يلمحان إلى إمكانية التفاوض مع «الشيطان الأكبر» الدولة التي تخنق البلاد والعباد من خلال عقوباتها غير المسبوقة، ومن دون أي مسوّغ قانوني، أو حتى غطاء دولي يمنحها بعض الشرعية، بحسب وجهة النظر الإيرانية.
هي إذاً معركة شرسة أقحم الإصلاحيون، ممثلين بروحاني وظريف، أنفسهم فيها داخل البيت الإيراني نفسه، إن لم نقل حتى الإصلاحي، قبل أن يحلموا بنجاح مسعاهم ويبدأوا بمواجهة حقول الألغام التي تنتظرهم أثناء تفاوضهم مع الأميركيين.
الخيارات ضاقت حتى تكاد تكون انعدمت لدى روحاني، فالرجل لم يعد يملك أوراقاً داخلية ليخسرها، فأقدم على ما أقدم عليه في ما يشبه الانتحار السياسي في مفاهيم الصقور بقراره سلوك طريق التفاوض وإرسال إشارات عبر الفرنسيين حول استعداده للتفاوض مع واشنطن، معتقداً أنه بذلك قد يستطيع فتح كوة في جدار الأزمة.
ماكرون، تلقّف الإشارة وحصل ما حصل من زيارة ظريف إلى بياريتز، وما تبعها من أجواء توهّم العالم على إثرها أن الأزمة بين طهران وواشنطن قد وُضعت على سكة الحل.
في الداخل الإيراني يدور حديث عن أن روحاني تجاوز الخط الأحمر وخرج عن النص. أي خط أحمر؟ وأي نص؟ الخط الأحمر لدى الإيرانيين هو التلميح إلى احتمال التفاوض مع الأميركيين من دون الإلغاء الشامل للعقوبات، أما الخروج عن النص فهو تجاوز تعليمات المرشد وقراراته! نعم، فروحاني بادر إلى اتخاذ خطوته الأخيرة بقرار فردي، بحسب معارضيه، ومن دون التنسيق أو حتى التشاور مع القيادة العليا التي يعود إليها وإليها وحدها حق بت القرارات الاستراتيجية، وأهمها وأبرزها على الإطلاق في هذه المرحلة، هو قرار التفاوض مع الأميركيين من عدمه.
وُوجِه روحاني بحملة اعتراض واسعة في الداخل الإيراني دفعته إلى الانقلاب الكامل على موقفه وتغييره تماماً، وإلى استبداله بموقف أقل ما يُقال فيه إنه الموقف الإيراني المعهود الذي لا يمكن أن يتجاوز سقف تعليمات مرشد الثورة في أي حال من الأحوال. تلك الحملة ظهرت إلى العلن عبر صفحات اليوميات الإيرانية التي اعتبر بعضها أن تصريحات روحاني حول رغبته في التفاوض مع الأميركيين مثال بارز على دبلوماسية التسول، وأن الرجل –أي روحاني– لديه دبلوماسية منفعلة جعلت ماكرون وترامب يهينان إيران.
تحذير ثم تراجع
من الواضح أن روحاني وفريقه لم يكن هدفهما إضاعة الوقت كما أشار بعض الصحف الإيرانية، لكن ومما لا لبس فيه، أن التراجع عن فكرة الاستعداد للتفاوض جاءت تحت وطأة التحذير الذي تبلغته من القيادة العليا لا بسبب إعادة استشراف للموقف والنظرة إليه من زاوية مختلفة. كلام قائد القوة الجو فضائية يوم الخميس حاجي زادة يأتي أيضاً في سياق تأكيد إصرار إيران على المواجهة الندية مع الولايات المتحدة ونفي فكرة التفاوض قبل الإلغاء الشامل للعقوبات، فقد ذكّر بحادثة إسقاط الطائرة الأميركية في الخليج، مشيراً إلى أن بلاده كانت في أعلى جاهزيتها متخذة قرار ضرب القواعد الأميركية في قطر وبحر عُمان وغيرهما في حال سقوط أي صاروخ أميركي على أراضيها.
ظريف العائد بخيبته من بياريتز أكد من ماليزيا أن على واشنطن العودة إلى الاتفاق النووي إذا كانت تريد إجراء مفاوضات معنا، وإن بلاده لا يمكن أن تتواصل معها ما لم تكفّ عن ممارسة الإرهاب الاقتصادي ضدها.
عَود على بدء
لا مفاوضات ولا حرب. بل عودة إلى ما كان الوضع عليه قبل زوبعة بياريتز والخيبة التي نجمت عنها . هذه هي خلاصة الموقف الحالي. فبرغم حجم الضغط الاقتصادي الذي ترزح تحت وطأته إيران استطاعت أن تستمر في تسيير أمورها من خلال مقاومتها الاقتصادية، فالدولة التي تبلغ مساحتها مليوناً وستمئة وعشرين ألف كيلومتر مربع، ولها حدود مشتركة مع إحدى عشرة دولة، ما تزال تصدّر نفطها –وإن بكميات أقل– وتصدّر الغاز أيضاً، فضلاً عن الكهرباء التي تزّود بها خمس دول، إضافة إلى الصادرات البتروكيميائية وغير النفطية، والسياحة الدينية منها وغير الدينية.
أما الولايات المتحدة ممثلة برئيسها فهي مستعجلة أكثر من أي وقت مضى لإتمام تسوية للأزمة مع إيران، كيف لا وهي التي تقف على أعتاب انتخابات تحتاج إلى حلول للمشاكل التي راكمها ترامب منذ وصوله إلى الرئاسة، تمنحه بعض الأسهم أملاً ببلوغ ولاية جديدة.
Leave a Reply