وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
كما كان متوقعاً، لم يلتق الرئيسان الأميركي والإيراني في نيويورك. دونالد ترامب ترك الباب مشرعاً للمسار السلمي في التعامل مع الأزمة الإيرانية، دون أن يسقط عصا العقوبات من يده بل توعد بتغليظها لتليين موقف الجمهورية الإسلامية. أما الإيرانيون فيتمسكون برفض التفاوض مع واشنطن قبل رفع العقوبات، مهددين بحرب شاملة في حال الاعتداء على بلادهم، في حين لم يبدِ أي من القادة الغربيين تجاوباً جدياً مع ضغوط السعودية للرد على هجوم «أرامكو» الذي يبدو أنه لم يضر باقتصاد المملكة وحسب، بل أيضاً كشفها أمنياً وأزال وهم الحماية الأميركية عنها.
وأمام «ستاتيكو التوتر» القائم، تحركت عدة وساطات دولية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لتحريك المياه الراكدة بين واشنطن وطهران. ولكن هل يمكن لتلك الوساطات أن تبرّد مياه الخليج الساخنة؟ أم تتجه الأمور مجدداً نحو التصعيد عند أي منعطف أمني قادم؟
الرئيس الإيراني حسن روحاني قال لدى عودته من اجتماعات نيويورك، إن الولايات المتحدة أرسلت رسالة إلى زعماء أوروبيين بعزمها رفع جميع العقوبات المفروضة على طهران لكنه رفض إجراء محادثات مع واشنطن مع استمرار العقوبات الأميركية، مؤكداً أن «مؤامرة السعودية والولايات المتحدة لاتهام إيران بالهجوم على أرامكو فشلت».
لكن في المقابل، قال الرئيس دونالد ترامب إنه رفض طلب إيران رفع العقوبات مقابل إجراء محادثات، مقدماً رواية متناقضة مع رواية روحاني. وكتب ترامب على «تويتر»: «إيران أرادت مني رفع العقوبات المفروضة عليهم من أجل الاجتماع. وقلت بالطبع لا!».
«تحالف الأمل» في نيويورك .. وتهديدات في طهران
إذا كانت إيران تتصرف ببرودة شديدة تجاه الدعوات الأميركية للتفاوض، فإنها تتحرك من موقع المبادر لحفظ أمن الخليج عبر اقتراح إنشاء تحالف لضمان أمن الخليج ومضيق هرمز، على أساس التعاون بين دول المنطقة.
من على منبر الأمم المتحدة دعا روحاني الدول كافة التي تتأثر بتطورات منطقة الخليج الفارسي ومضيق هرمز إلى الانضمام إلى «تحالف الأمل» و«مبادرة هرمز للسلام»، محذراً في الوقت عينه من أن لصبر بلاده حدوداً، وأن من يدعوها إلى التفاوض يضرب بعرض الحائط كل التزاماته، مكرراً «لازمة» الموقف الإيراني: «لا للتفاوض في ظل العقوبات»، ومقراً في الوقت نفسه بأن «المنطقة تقف على حافة الهاوية حيث أن خطأ واحداً قد يشعل حريقاً كبيراً».
ولفت روحاني إلى أنه وبرغم انسحاب أميركا من الاتفاق النووي لم تزل إيران ملتزمة ولمدة عام بتعهداتها النووية، مشدداً على أن «ردنا على التفاوض في ظل العقوبات الأميركية هو رفض المفاوضات والسبيل الوحيد للعودة إلى المفاوضات هو وقف العقوبات على إيران»، متوعداً بـ«الرد بحزم» على أي اعتداء ضد أمن إيران ووحدة أراضيها.
وجاء الإعلان عن المبادرة الإيرانية لحفظ أمن الخليج في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة على خطة خاصة بها لتشكيل تحالف عسكري من المفترض أن يضم أكثر من 50 دولة، بينها إسرائيل، لضمان أمن الملاحة في مياه الخليج على خلفية تزايد الحوادث المتعلقة بناقلات النفط في المنطقة إضافة إلى تصعيد التوتر بين طهران من جهة وواشنطن وحلفائها، خاصة الرياض، من جهة أخرى، لا سيما بعد الهجوم على منشأتين حيويتين لشركة «أرامكو» النفطية يوم 14 سبتمبر الجاري.
خلف مبادرة روحاني كانت ترتفع نبرة التهديد العسكري في طهران. ولا يخفى على أحد أن ذلك يندرج في سياق المسار الذي غالباً ما يعتمده الإيرانيون في مفاوضة خصومهم: يد ممدودة للحوار والسلام وأخرى على الزناد.
قائد حرس الثورة حسين سلامي صرّح بأن أعداء بلاده لا يمكنهم تصور قوتها، وأن ما يعرفونه عنها هو جزء قليل، مضيفاً أن قوة بلاده تمتد من شرق البحر المتوسط إلى شمال البحر الأحمر، وتلاحق العدو في أي نقطة. وتوجّه إلى الأميركيين بالقول: لا تفعلوا شيئاً يؤدي إلى تحرير مخزون قوتنا وانتبهوا وقوموا بحساباتكم جيداً.
وساطات
إيمانويل ماكرون، الزعيم الأوروبي الشاب، سعى جاهداً إلى إحداث خرق في الملف الإيراني عبر طرح نفسه كوسيط للتسوية بين واشنطن وطهران. الرئيس الفرنسي عقد اجتماعين مع روحاني أتبعهما باجتماع ثالث في الأمم المتحدة، وتقدم بخطة تكاد تكون الأكثر موضوعية حتى الآن من خمس نقاط لتحقيق انفراج في الأزمة:
1– امتناع إيران المطلق عن التسلح النووي
2– البحث في آلية لإنهاء النزاع في اليمن
3– وضع خارطة أمنية إقليمية لحل النزاعات الأخرى في المنطقة
4– تأمين الملاحة البحرية في منطقة الخليج
5– رفع الحصار والعقوبات عن إيران
وتعقيباً على خطته التي أوردها في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أكد ماكرون أنه «ليس ساذجاً ولا يؤمن بحصول المعجزات»، مؤكداً على أن «الصلح يحتاج إلى شجاعة».
إذ قال ماكرون للصحافيين بعد لقائه الرئيسين الأميركي والإيراني: «الظروف تهيأت لاستئناف سريع للمفاوضات. الأمر الآن يعود إلى إيران والولايات المتحدة لانتهاز الفرصة».
وفي معرض تقديمه روحاني لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قال ماكرون أمام الصحافيين وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على محيّاه «إذا غادر البلد من دون أن يلتقي الرئيس ترامب فستكون هذه حقاً فرصة ضائعة لأنّه لن يعود قبل عدّة أشهر».
وحين سأل أحد الصحافيين الرئيس روحاني حول فرص اللقاء مع ترامب رسمياً أو كما يحدث أحياناً بالصدفة، أجاب: «ولماذا نلتقي صدفة، إذا كانت الغاية تحقيق الأهداف الكبرى ومصلحة شعبينا، يجب أن يكون اللقاء مخططاً له، لكن قبل ذلك لا بد من بناء الثقة، الثقة التي هدمها السيد ترامب سابقاً».
على خط الوساطة أيضاً، برز رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان الذي قال إن كلاً من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترامب قد طلبا منه التوسط لدى الإيرانيين لحل الأزمة، رافضاً إعطاء تفاصيل، لكن ترامب نفى ذلك بشدة وقال إن خان هو من تقدم بعرض الوساطة.
لاعب إقليمي ثالث دخل على خط الوساطة، فبعد لقائه الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وولي عهده، وصف رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، الأوضاع بالصعبة والمعقدة، لكنه أبدى تفاؤله بشأن المضي قدماً باتجاه حلحلة الأزمة ومنع نشوب حرب في المنطقة فلا أحد يريد الحرب وفق تعبيره.
مصدر إيراني مطلع قال لـ«صدى الوطن» إن المبادرتين الفرنسية والباكستانية تسيران بالتوازي، لكن علاقة فرنسا القوية بأميركا ربما تعطي الأرجحية لمبادرتها، وهو ما يفسر قول ماكرون ربما بأن الظروف كلها باتت مهيأة للقاء ترامب وروحاني. ولكن –كالعادة– الشيطان يكمن في التفاصيل!
لا أميركية للحرب
الشارع الأميركي بغالبيته يرفض التورط في حرب مع إيران. فالذاكرة حُبلى بمخلّفات الحروب العبثية السابقة التي خاضتها بلاد العم سام وكانت في معظمها من دون طائل، من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق، وهي دول ضعيفة إذا ما قورنت بدولة مثل إيران.
الصحافي نيكولاس كريستوف وفي مقالة له في جريدة «نيويورك تايمز» رفض تورط الولايات المتحدة في حرب مع إيران من أجل السعودية، معتبراً أن أفراد الجيش الأميركي ليسوا مرتزقة لدى حكام مجرمين.
ونُقل عن وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، سخريته من الأمر بالقول إن المملكة السعودية تريد «محاربة الإيرانيين حتى آخر أميركي».
هل فقد ترامب زمام المبادرة؟
إذن، الرئيس الأميركي دونالد ترامب يواجه تحدياً صعباً فهو لا رغبة لديه في خوض أي نوع من الحرب وهذا ما يعبّر عنه صراحة، لكن الإيرانيين باتوا يرون فيه شخصاً ضعيفاً لا يقوى سوى على إطلاق التهم والتهديدات، وأنه فاقد بالفعل لزمام المبادرة، وذلك من خلال تجاربهم المتعددة معه، ولاسيما يوم حادثة إسقاط الطائرة المسيرة فوق مضيق هرمز.
لكن، وفي حال استجاب ترامب لضغوط الصقور المحيطين به واستهدف مصافي النفط الإيرانية، (وهو أمر مستبعد جداً) فإن إيران وكما أكدت مراراً وتكراراً أنها ومنذ اللحطات الأولى للحرب ستستهدف كل القواعد الأميركية في منطقة الخليج، عدا عن البنى التحتية لأية دولة تشارك في الهجوم عليها أو تنطلق منها الهجمات.
السعودية تحرج حلفاءها
يقول محللون أميركيون إنه ولسوء الحظ، من دون العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، كل الخيارات ستكون سيئة. يجب العودة إلى الاتفاق، مع إجراء بعض التعديلات التي لا تغضب إيران أو تستفزها وتكون فقط لحفظ ماء الوجه وتسمح لكل من ترامب والمرشد الإيراني بإعلان الانتصار، ما يعني العودة الى الصيغة القديمة رابح– رابح. الأمر يتطلب دبلوماسية ماهرة يمتلكها الإيرانيون بشهادة القاصي والداني فيما قد يفتقر إليها الفريق الأميركي تحت إدارة ترامب.
يُضاف إلى كل ذلك أن الملف الأخلاقي والإنساني للسعودية أصبح مخجلاً ولا يمكن التغاضي عنه منذ أن تصدّر ولي العهد الصورة، فمن احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى حرب اليمن وما أنتجته من مآسٍ يندى لها جبين الإنسانية، وصولاً إلى حصار دولة عربية شقيقة، وليس انتهاء بقتل الصحافي المعارض جمال خاشقجي، واستمرار سجن المرشحة لجائزة نوبل للسلام، لُجين الهذلول، بعد تعذيبها والاعتداء الجنسي عليها في وقت سابق بسبب دفاعها عن حقوق المرأة.
أرامكو والخسائر الحقيقية
وفي سياق مرتبط بأزمة الخليج، يتكشف يوماً بعد يوم حجم الخسائر الضخمة التي مُنيت بها السعودية على أثر الضربة التي تلقتها «أرامكو»، وحجم الهلع والرعب اللذين يسيطران على المملكة. فقد أبلغت السعودية اليابان عن تغيير محتمل في طبيعة شحنات النفط بعد هجمات «أرامكو»، ما يثير مخاوف بشأن قدرة السعودية على توريد النفط الخام.
صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية تحدثت عن أن السعودية تشعر للمرة الأولى منذ عقود بالضعف، ولم تنجح الولايات المتحدة في تهدئة مخاوفها، وهي التي تحاول بكل قوتها النأي بنفسها عن أي تدخل عسكري جديد في الشرق الأوسط.
الطرف الأميركي، وعلى لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، أشار إلى أن هجوم «أرامكو» هو نوع من أنواع الحرب، لكنه أكد أن الدبلوماسية هي السبيل الوحيد لحل القضايا. وباستثناء ما أعلنته وزارة الدفاع الأميركية عن نشر بطاريات صواريخ «باتريوت» وأربعة أجهزة رادار ونحو مئتي جندي في السعودية، لا يبدو أن الأميركيين سيقومون برد على «هجوم أرامكو».
ولعل أبرز ما حصلت عليه الرياض من الاجتماعات الأممية في نيويورك، هو بيان صدر في ختام اجتماع قادة كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، حمّلوا فيه إيران مسؤولية الهجمات على المنشآت النفطية السعودية وهو ما رفضته إيران بشدة طالبة تقديم الدليل وانتظار نتائج التحقيق الدولي.
موقف قوة
إيران تواصل التصرف من موقع القوة والإمساك بزمام الأمور في الخليج. فبعد طول انتظار، أفرج الإيرانيون، بالتزامن مع اجتماعات نيويورك، الاثنين الماضي، عن ناقلة النفط البريطانية «ستينا أمبيرو» التي احتجزها حرس الثورة منذ أكثر من شهرين، مشيرين إلى أن السفينة يمكنها مغادرة البلاد «بعد استكمال الإجراءات القانونية والقضائية بحقها».
وكانت قوات الحرس الثوري قد احتجزت الناقلة التابعة لشركة سويدية والتي كانت تسير تحت العلم البريطاني، في مياه مضيق هرمز، يوم 19 تموز (يوليو) الماضي، متهمة السفينة بـانتهاك قوانين الملاحة الدولية.
وجاء احتجاز الناقلة البريطانية وطاقمها المكون من 23 شخصاً بعد أسبوعين من توقيف ناقلة النفط الإيرانية على يد مشاة البحرية البريطانية في جبل طارق، والتي تم إطلاق سراحها في وقت سابق.
إيران تعمّدت تأخير الإفراج عن الناقلة البريطانية، ولم تفعل ذلك تزامناً مع إطلاق ناقلتها التي كانت محتجزة لدى البريطانيين، فقط لتثبت أن الأمر لم يكن مقايضة بين الدولتين، فطهران بقيت مصرّة على أنها تنفذ القوانين الدولية المرعيّة الإجراء في خليج هرمز، فيما عدت اختطاف ناقلتها «قرصنة وبلطجة» من قبل بريطانيا.
العودة إلى الاتفاق أو الكارثة
على الرغم من الإشارات الإيجابية التي أبدتها إيران نحو الوساطات الناشطة، ترفض إيران –من موقع القوة– أية محاولة للالتفاف على مطلبها بضرورة إلغاء كل مفاعيل خروج أميركا من الاتفاق النووي قبل العودة إلى مفاوضات.
حتى اقتصادياً، أشار روحاني إلى أن إجراءات الحظر والضغوط القصوى لم تحقق شيئاً، حيث أن الشعب الإيراني قاوم وصمد، وإن الحركة الاقتصادية خلال الأشهر الأخيرة قد أصبحت أفضل مما كانت عليه من قبل.
أما أميركياً، فيعتبر التقاعس عن الرد، ضعفاً، فيما الرد العسكري قد يتصاعد ويجر إلى كارثة! إذن هي كماشة وضع ترامب نفسه بين فكيها، والسبب أولاً وأخيراً خروجه من الاتفاق النووي. وأمام التصلب الإيراني يبدو أن لا حل أمام سيد البيت الأبيض سوى بالعودة إلى ذلك الاتفاق!
Leave a Reply