قرار ترامب المفاجئ بالانسحاب من شمال شرقي سوريا يخلط أوراق الأزمة السورية
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بعد ترقب دولي وتحشيد عسكري عند الحدود السورية، بدأ التوغل التركي في شمال شرقي سوريا، تحت مسمى عملية «نبع السلام» التي انطلقت بـ«ضوء أصفر» أميركي بعد قرار الرئيس دونالد ترامب المفاجئ بسحب القوات الأميركية من المنطقة والتخلّي عن الحلفاء الكرد ليواجهوا مصيرهم أمام جموح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وإذا ذكّر ترامب بالعداوة التاريخية المستمرة منذ قرون بين الكرد والترك، وبعدم دعم الكرد للأميركيين في إنزال النورماندي ضد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، فإنه أكد مراراً –بعد إعلانه الانسحاب من شمال شرقي سوريا– أنه لن يسمح لتركيا أن تقضي على الأكراد متوعداً أردوغان بتدمير اقتصاد بلاده في حال تجاوز «الخطوط الحمر».
ولكن ما هي الخطوط الحمر؟
ترامب وصف في بيان نشره البيت الأبيض، الأربعاء الماضي، الهجوم التركي «بالغزو»، وأن الولايات المتحدة لا تؤيد هذا الهجوم، وأنه أوضح صراحة لتركيا أن هذه العملية «فكرة سيئة»، مضيفاً أن تركيا «تعهدت بحماية المدنيين وحماية الأقليات الدينية ومنها المسيحيون وضمان عدم حدوث أزمة إنسانية وسنلزمهم بهذا التعهد».
أما تركيا التي بدأت بخوض معارك شرسة ضد المقاتلين الأكراد في العديد من القرى الحدودية، كانت قد أعلنت أهداف عملية «نبع السلام» وهي: محاربة الإرهاب –أي أن عملياتها ستستهدف «حزب العمال الكردستاني» المصنف تنظيماً إرهابياً من قبل الحكومة التركية، إلا أن أنقرة تعتبر أيضاً أن «وحدات حماية الشعب» ليست سوى امتداداً لـ«حزب العمال»، الذي يخوض تمرداً ضدها على أراضيها منذ عقود.
وتعد «الوحدات الكردية» شريكاً رئيسياً للتحالف الدولي الذي قادته واشنطن لقتال تنظيم «داعش»، إذ نجحت هذه «الوحدات» التي تشكل العمود الفقري لـ«قوات سوريا الديمقراطية» في دحر التنظيم الإرهابي عن مناطق واسعة في شمال شرقي سوريا.
أبلغ ترامب صراحةً، معارضيه بأن العلاقة مع تركيا وإعادة الدفء إليها أهم بكثير من الالتزام بوعد هنا أو تعهد هناك. وهو في هذه الحال يرى أنه استحصل على مكسبين يضاهي أحدهما الآخر في الأهمية: الأول هو استعادة تركيا إلى الحضن الأميركي بعد انزلاقها نحو الروس، والثاني هو دق إسفين في علاقتها مع روسيا وإيران، الدولتين الفاعلتين في الملعب السوري، واللتين تربطهما علاقات جيدة مع أنقرة.
ولكن أمام سيل الانتقادات الداخلية والإقليمية والدولية التي قوبل بها قرار انسحاب ترامب من شرقي الفرات، لاسيما في التخلي عن حليف الأمس بأبخس الأثمان، أكد ترامب على أنه لن يبقى صامتاً إذا تجاوزت العملية التركية الحد المسموح به، ملوحاً عبر «تويتر» بواحد من ثلاثة خيارات بوجه تركيا: إما إرسال آلاف الجنود والانتصار عسكرياً، أو توجيه ضربة اقتصادية قوية لتركيا وفرض عقوبات عليها، أو التوسط للتوصل لاتفاق بين تركيا والأكراد.
وفي رده على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كان يخشى من أن يقدم الرئيس التركي على القضاء على الأكراد، قال ترامب «سأمحو اقتصاده إذا حدث ذلك».
وكان مشرعون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس الأميركي قد أعدوا مشروع قانون ينص على فرض عقوبات على أردوغان، وعدد من وزرائه بسبب العملية العسكرية في سوريا.
وقالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وهي ديمقراطية، في بيان «هذا القرار يشكل تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار الإقليميين ويبعث برسالة خطيرة لإيران وروسيا وكذلك لحلفائنا مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد شريكاً مؤتمناً». ودعت ترامب في البيان إلى «العدول عن هذا القرار الخطير».
أما زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش ماكونيل فقال في بيان «الانسحاب المتسرع للقوات الأميركية من سوريا لن يصب سوى في مصلحة روسيا وإيران ونظام الأسد وسيزيد من خطر نهوض داعش وغيرها من الجماعات المتشددة مرة أخرى».
من جانبه، قال السناتور الجمهوري ليندسي غراهام، المقرب من ترامب، إن قرار الرئيس الأميركي بالانسحاب «ستكون له عواقب وخيمة على الأمن القومي الأميركي».
وقد تعرض ترامب لسيل من الانتقادات من المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين وبعض الجنرالات القدامى في الجيش الأميركي متهمين إياه بالانسحاب من شمال شرقي سوريا إفساحاً في المجال أمام تركيا كي تهاجم الأكراد.
القضاء على حلم الانفصال
«قوات سوريا الديمقراطية» أو ما يُعرف بـ«قسد» ومن خلال هذه العملية، تهاوت كل أحلامها الانفصالية بإقامة دولة كونفدرالية كردية في الشمال السوري.
فالأميركي وكما هو دأبه دائماً، يتخلى عن حليفه عند أول مفترق لا تجد فيه واشنطن مصلحة لها، وقد فعلها سابقاً في الجنوب السوري، حين بدأ الجيش بتحرير تلك المنطقة، وهذا ما استشعره الأكراد اليوم ولكن بعد فوات الأوان.
إزاء هذا الموقف تجد «قسد» نفسها مجبرة على قبول مبدأ العودة إلى الدولة الأم ولو على مضض، وقد رشحت معلومات عن بدء مفاوضات جدية بين «قسد» والحكومة السورية، لنشر الجيش السوري في المنطقة لقطع الطريق على العملية التركية.
العداوة التركية مع بعض دول الخليج ولاسيما السعودية والإمارات صبّت هي أيضاً في مصلحة دمشق هذه المرة، وثمة حديث عن توجه للانفتاح نحو دمشق قد يُتوج بخطوات غير مسبوقة قريباً!
غير أن دمشق لا يمكنها أن تنام في العسل. فإذا كان أردوغان قد قال إن من أهداف «نبع السلام» الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وطرد التنظيمات الإرهابية منها. فإن العارفين بالشؤون التركية يشككون بأن الهدف الأردوغاني من العملية لا يقتصر على الوجود الكردي المتمثل بـ«قسد» على المناطق الحدودية، بل يتعدى ذلك ليحيي حلمه القديم المتجدد بإقامة «منطقة آمنة» عبر السيطرة على جزء من الأراضي السورية، كورقة يمكنه أن يفاوض بها لاحقاً عند إبرام أية تسوية منتظرة للأزمة السورية.
إذ أن أردوغان يريد أن يحقق بعض المكاسب للجماعات التي يدعمها، حيث سيسعى إلى إعادة توطين النازحين الموجودين في تركيا في المناطق السورية الحدودية فيبعد الخطر الكردي ويوجه ضربة قاصمة لحلم الانفصال.
وفقاً لصحيفة «ملييت» التركية، فإن 85 ألف جندي تركي و80 ألفاً من المنضوين في ما يُسمى «الجيش الوطني السوري» الذي أنشأته أنقرة وقامت بتدريب عناصره الذين يشكلون قوام القوة المهاجمة.
وزارة الدفاع التركية وفي تغريدة عبر حسابها في موقع «تويتر»، ذكرت أن الجيش التركي قصف في اليوم الأول من العملية 181 هدفاً للمسلحين الأكراد. كما أعلنت في اليوم التالي مقتل وإصابة مئات المسلحين، في حين نزح عشرات الآلاف عن مناطق الاشتباك في اليومين الأولين من عملية «نبع السلام».
ردود فعل
سوريا ولكونها مسرح العمليات الدائرة، اعتبرت التوغل التركي عدواناً سافراً، مؤكدة أنها ستواجهه وتتصدى له بكل السبل المتاحة، ولكنها في نفس الوقت لم تفتح ذراعيها لــ«قسد».
نائب وزير الخارجية فيصل المقداد ذكّر بأن إخراج الجيش السوري من شمال شرقي الفرات ومحاربته من قبل«قسد»، هما ما سمح لتركيا بالهجوم وانتهاك سيادة البلاد، واصفاً «قسد» بأنها «فصائل مسلحة خانت وطنها وارتكبت جرائم ضده».
كما اتهم المقداد، أردوغان بفتح الحدود أمام 170 ألف إرهابي كي يمارسوا القتل في سوريا، على حد تعبيره، وأنه يجب أن يُحاسب على جرائمه بحق الشعب السوري، مؤكداً حرص الدولة السورية على كل مواطنيها وعودتهم إليها «ولكن بعيداً عن أي منطق انفصالي»، مستدركاً بأن دمشق «لن تقبل أي حوار أو حديث مع من رهن للقوى الخارجية» وأنه «لن يكون لعملاء الولايات المتحدة أي موطئ قدم على الأرض السورية».
إيران أبدت قلقها من العملية لما قد تخلّفه من أضرار وخسائر بشرية، ولكنها تعرف حق المعرفة ارتباط الأكراد في تلك المنطقة بإسرائيل، وبأن وجود بعض الفصائل الكردية في جبال قنديل عند حدودها هو بمثابة خنجر في خاصرتها الغربية.
الرئيس حسن روحاني دعا أنقرة الى ضبط النفس وتجنب أي عمل عسكري في الشمال السوري، فيما ألغى رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني زيارة كانت مقررة لتركيا للمشاركة في مؤتمر برلماني، بدعوة من نظيره التركي احتجاجاً على العملية العسكرية.
موسكو بدورها أعلنت أنها ستطلب بدء محادثات بين دمشق وأنقرة وفي إشارة واضحة إلى موافقة ضمنية روسية على العملية، حيث قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن بلاده تتفهم قلق أنقرة، لكن يجب تسوية الأمر مع مراعاة مصالح دمشق، وهي معنية أي موسكو بتهدئة فورية على قاعدة وحدة الأراضي السورية.
أما الرئيس العراقي، برهم صالح، فاعتبر العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تصعيداً خطراً، محذراً من أنها ستؤدي إلى «فاجعة إنسانية».
بدوره، قال نائب رئيس برلمان إقليم كردستان العراق، هيمن هورامي، إن العمليات العسكرية التركية في سوريا تزعزع استقرار المنطقة.
ومن المقرر أن تعقد جامعة الدول العربية اجتماعاً طارئاً على مستوى وزراء الخارجية، يوم السبت (مع صدور هذا العدد)، لبحث «العدوان التركي» على الأراضي السورية.
المفوضية الأوروبية بدورها، حثت تركيا على الوقف الفوري للعملية، ودعت الى حل سياسي، فيما قال وزير الخارجية الإيطالي إن العملية العسكرية التركية في سوريا مدانة وغير مقبولة.
صدمة في إسرائيل
وسائل الإعلام الإسرائيلية تناولت حجم الصدمة التي تلقّتها تل أبيب من جراء انسحاب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا وتخليها عن الحليف الكردي، وهي التي ما انفكت تقدم للأكراد كل أشكال الدعم لمساعدتهم في إنشاء كيان انفصالي في خاصرة سوريا، حتى أن «يديعوت أحرونوت» وصل بها الحد إلى وصف الانسحاب الأميركي بأنه «ليس سكيناً في ظهر الكرد فقط بل في ظهر إسرائيل أيضاً».
أعلن مسؤولون إسرائيليون بأن القيادة الإسرائيلية فوجئت بقرار الولايات المتحدة سحب قواتها من شمال سوريا، ولم تتلق بلاغاً مسبقاً من واشنطن بذلك.
ونقلت «القناة 13» الإسرائيلية عن مسؤولين كبار قولهم إن «المستوى السياسي والجهاز الأمني فوجئ، بقرار ترامب التخلي عن القوات الكردية، وتشجيع العمليات التركية والإيرانية في سوريا».
وبحسب القناة الإسرائيلية، فإن «إعلان ترامب جاء بعد ساعات من جلسة المجلس الوزاري المصغر الذي ناقش الأحد الماضي ضمن جملة مواضيع بينها رغبة ترامب مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية 2020، في تجنب أية مواجهة في الشرق الأوسط، بما في ذلك إيران». وأضافت القناة أن «إسرائيل ترى في التطورات الأخيرة إثباتاً على أنها لا تستطيع الاعتماد أكثر على ترامب بشأن سوريا، باستثناء الدعم السياسي للهجمات الإسرائيلية».
وأشارت «القناة 13» إلى «صمت رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي لم يعقب بعد، على قرار ترامب الذي يعتبر الحليف الأقرب له خلال السنوات الثلاث الأخيرة»، مضيفة أن «إسرائيل الآن تدفع الثمن دون أن تستطيع أن تنتقد، لتبقى وحيدة أمام التهديد المتصاعد في سوريا».
العودة عن فكرة الانفصال
لم يمضِ وقت طويل على ما حدث في عفرين عام 2017… الدرس كان قاسياً، لكن الأكراد لم يحسنوا الإفادة منه: لا حليف للدول العظمى سوى مصالحه،ا ويسهل جداً التخلي عن أي كان مقابلها. حمّام الدم الكردي الذي بدأ لن ينتهي إلا بمراجعة شاملة للموقف، والإقلاع عن فكرة الانفصال عن الدولة السورية والعودة إلى كنفها، من خلال إعادة انتشار الجيش السوري.
وفي قراءة للواقع الحالي يمكننا استقراء النتيجة االتالية: دمشق هي الرابح الأكبر! كيف ذلك؟ التركي بانزلاقه في المستنقع السوري بهذه القوة سيعاني على الأقل ما عاناه الأميركي في فيتنام على يد مقاومة شعبية كردية. أما الأكراد فقد خسروا تماماً إمكانية إنشاء كيان مستقل، بل سيتسابقون هم والأتراك للتفاوض مع دمشق، وإضافة إلى كل ما سلف، سيتابع الأميركي انسحابه من سوريا، وهذا طبعاً غاية ما تتمناه دمشق.
Leave a Reply