وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بعد صمت استمر طيلة الأيام الفائتة خرج الرئيس اللبناني ميشال عون إلى مواطنيه، بخطاب لم يرقَ في رأيهم إلى مستوى المرحلة، فآراء الشارع التي عكستها محطات التلفزة التي أخذت على عاتقها نقل فعاليات الحراك «لحظة بلحظة» أجمعت على رفضه واعتباره ضعيفاً، لا يسمن ولا يغني من جوع… علماً بأن الرئيس عون أقرَّ في خطابه المتلفز بوجود الفساد وغياب المحاسبة، واعداً بالإصرار على ملاحقة الفاسدين من خلال القضاء، رغم كثرة العراقيل.
عون الذي أكد أنه سيضمن مكافحة الفساد عبر القضاء، اعتبر أن الورقة الإصلاحية التي قدمها رئيس الوزراء سعد الحريري «هي خطوة أولى لإنقاذ البلاد»، لكنه أكد على أن النظام لا يتغير في الساحات بل من خلال المؤسسات الدستورية، وأن هناك ضرورة لإعادة النظر في الواقع الحكومي، داعياً المتظاهرين إلى لقائه ومناقشة مطالبهم معه.
وفي تعقيب أول على الخطاب الرئاسي، أعلن رئيس الحكومة سعد الحريري أنه اتصل برئيس الجمهورية، ورحّب بدعوته إلى ضرورة إعادة النظر في الواقع الحكومي الحالي من خلال الآليات الدستورية المعمول بها، في إشارة واضحة إلى احتمال اللجوء لتعديل وزاري، وصولاً ربما إلى استقالة الحكومة وتأليف أخرى جديدة، تخلو من الوجوه المستفزة للمعترضين في الشارع.
زخم الشارع
إذن، وبعد أكثر من أسبوع من الاحتجاجات المستمرة ليلاً ونهاراً، يحافظ الحراك الشعبي على أعلى درجات الزخم، في سابقة لم يشهدها لبنان على مدى العقود الماضية، التي لطالما كانت حُبلى بالأزمات.
وكانت قد سبقت خطاب الرئيس ورقة إصلاحية تلا بنودها الحريري، هي أيضاً لم تُلاقِ استحسان الشارع الغاضب ولم تُرضِ طموح المحتجين رغم ما تحتويه من بنود غير مسبوقة، بل اعتبرها البعض مجرد وعود وتقديمات متواضعة تحتاج إلى شهور عديدة لتنفيذها… وهو ما نظر إليه على أنه استخفاف بمطالب المحتجين ومحاولة لإسكاتهم وتخديرهم بجرعات مسكّنة لا تشفي أوجاعهم المزمنة.
الاحتقان في الشارع بدأ قوياً وعالي السقف، فمنذ اللحظة الأولى انطلق مطلب إسقاط النظام، وتصدر الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام» المشهد، إلى جانب مطالب أخرى كثيرة ومحقة، يرفعها المحتجون، كإعادة الأموال المنهوبة ووقف الهدر في مختلف المؤسسات الرسمية وفي مقدمها الكهرباء ومصرف لبنان ومحاسبة المسؤولين عن كل ذلك.
«كلن يعني كلن» أحد أبرز الشعارات التي رددها المتظاهرون في الساحات التي ضاقت بهم، شعار استفز جزءاً كبيراً من المتظاهرين أنفسهم، فهو في رأيهم يشمل الجميع ولا يميز بين فاسد ومناهض للفساد، ورأى فيه البعض محاولة للتطاول على المقاومة بإدراج الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ضمن قائمة السياسيين الفاسدين.
نصرالله خرج إلى المتظاهرين بعد يومين من بدء الحراك، وأعلن بوضوح أنه مع مطالب المتظاهرين، ولكنه لا يستطيع أن يتبنى حراكهم خدمة لهم، حتى لا يُحسب هذا الحراك على فئة حزبية دون أخرى، فتذهب الأمور في غير الاتجاه الذي يُراد لها… لكنه أقرّ أيضاً بتقصير الحكومة وقصورها عن محاكاة آلام شعبها، مؤكداً أنه في حال عدم التجاوب مع المطالب المعيشية المحقة للمتظاهرين، فإن «حزب الله» سيقول كلمته، وأنه حتماً سيأخذ جانب الشعب، وهو ما يترتب عليه تغيير جذري قد يؤدي إلى تغيير المعادلة برمّتها بحسب نصرالله.
فات الأوان؟
مع ارتفاع سقف المطالب يبدو أن الوصول إلى حل وسط بين المحتجين والسلطة أمر صب للغاية، فبعيداً عن العاطفة ومشاعر التضامن التي يحملها الجميع للمتظاهرين وحراكهم، الذهاب بنحو مباشر نحو إسقاط النظام والتصويب على قمة الهرم، يعده البعض ذهاباً نحو المجهول، وضياعاً في متاهة لا نهاية لها، قد تدخل البلاد في نفق أسود يلوح في نهايته شبح الحرب الأهلية، التي لم يكد يبرأ اللبنانيون من جراحها بعد… حتى أن البعض شبّهها بمن يطلق الرصاص على رأسه.
وفي استمزاج لآراء النخب اللبنانية التي تمثل شريحة لا بأس بها من المتظاهرين، تحدثت «صدى الوطن» إلى الأستاذ الجامعي والباحث السياسي والاقتصادي الدكتور نبيل سرور، حيث أكد أن منطلقات الحراك شريفة ولا شك في أحقيتها، وأن الناس نزلوا إلى الشارع يدفعهم الهم المعيشي على مختلف الصعد.
وفي ما يتعلق بالورقة الإصلاحية أكد سرور أنها لو أقرت سابقا لكانت مقبولة أكثر، لكنها بمجيئها تحت ضغط الشارع أتت هزيلة وغير كافية فضلاً عن أنها تحتاج إلى أشهر طويلة لتبدأ ملامح تنفيذها بالظهور.
وتوقف سرور عند بند الخصخصة الذي قد يؤدي إلى ارتهان البلد لدى الشركات الخاصة. وحول ما يقال عن محاولة استغلال البعض لهذا الحراك اليوم الذي يفتقر إلى التوجيه من قبل قيادة تضعه على السكة الصحيحة، لفت سرور إلى ضرورة التنبه لهذه الناحية وعدم إفساح المجال أمام التدخلات الخارجية أو حتى الداخلية التي تتلطى تحت شعارات مختلفة مثل الدعم المادي لاستمرارية الحراك وغيره بغية ركوب الموجة والتسلق على أكتاف المحتجين الفقراء، لأن ذلك قد يؤدي إلى انزلاق الأمور باتجاه خراب البلد وانهيار السلم الأهلي، مشدداً على عامل الوقت الذي كلما طال زادت الأمور تعقيداً وربما انفلتت من عقالها ليصعب بعدها أي علاج حتى لو كان جراحياً، وفي هذه الحال الكل سيكون خاسراً، وسينهار الهيكل فوق رؤوس الجميع.
سرور اعتبر أن السكوت عن الفساد كل هذا الوقت هو الذي فاقم الأزمة كما أنه لم يغفل مسؤولية الشعب نفسه عما آلت إليه الأمور، فهو الذي أعاد إنتاج هذه الطبقة السياسية التي ينتفض اليوم ضدها، كما ينتقد الصورة الميليشيوية التي ظهرت في بعض المناطق من خلال إقامة الحواجز وسؤال المواطنين عن هوياتهم في استعادة لمشاهد بغيضة من الحرب الأهلية.
وضع حرج
يعتقد الدكتور سرور أن الوضع في غاية الحرج وقد يتطور بنحو دراماتيكي، ويشدد على أن القوى الشريفة التي لم تتلوث أيديها بالفساد عليها أن تمارس أقصى ما يمكنها من الضغط على الحليف قبل الخصم، وهي القادرة على ذلك لما تمتلكه من مؤهلات على الأقل باتجاه إقالة الوزراء الفاسدين المكشوفين لتحافظ على مصداقيتها أمام جمهورها.
وينبّه إلى ضرورة الإسراع في التقاط اللحظة التاريخية واتخاذ إجراءات الإصلاح المطلوبة من أجل إعادة الاستقرار إلى البلد قبل فوات الأوان، حيث لم يعد من الممكن توقع التطورات التي قد تقع بين ساعة وساعة، داعياً المحتجين إلى التعاطي بموضوعية وتقديم مشروع يفاوضون عليه السلطة القائمة حتى لا يذهب ما شكلوه من ضغط حقيقي وازن في الشارع سدًى، معولِّاً على حكمة الكثيرين ووعيهم لمخاطر المرحلة.
عمق الأزمة
وعن مدى قدرة لبنان على تحمل هذه الأزمات التي لا تبارحه، فما إن تنتهي مشكلة تهدد السلم الأهلي فيه حتى تولد أخرى، يقول الدكتور سرور إن المشكلة تكمن في أصل التركيبة اللبنانية منذ نشوء دولة لبنان الكبير حتى يومنا هذا، القائمة على مبدأ الطائفية والمحاصصة، مؤكداً أن النظام والتركيبة تجعل البلاد أرضاً خصبة للنزاعات وولّادة للأزمات، بسبب عدم وجود الانسجام بين مكوّناتها، كما يُفترض أن يكون في أي دولة عادية.
وهنا يستذكر سرور ما حدث في بعض الدول العربية التي ركبت موجة «الثورات» رافضاً تسميتها بــ«الربيع العربي» بل هي وفقاً له، مجرد «خريف عربي» لم يحمل معه سوى المزيد من التبعية والقهر للشعوب، منطلقاً من ذلك ليحذّر من محاولة التشبه بها، ومن اتخاذها نموذجاً، والاستماع إلى الأبواق الخارجية التي تسعى الى الاستثمار في هذا الحراك وسرقة منجزاته.
انطلاقاً من كل ما سبق، يقول المراقبون، إن ثمة حاجة ملحة إلى إعادة قراءة ومراجعة من قبل فريق السلطة بكل مكوّناته لسياساته السابقة، مع الوعي الكامل للظروف الجيوسياسية المحيطة بالمنطقة، فصورة تقهقر المشروع الأميركي من العراق إلى اليمن فسوريا وطبعا لبنان، تستلزم إمعان النظر في ما يجري: فما عجز التحالف الأميركي –الإسرائيلي–الخليجي عن أخذه بالقوة، قد يحاول انتزاعه اليوم من خلال ما يُعرف بــ«الحرب الناعمة»…
Leave a Reply