وليد مرمر
«.. مبارح جاتلي فاتورة التلفون فيها مكالمات زيادة 18 جنيه مع العلم نادر لما اتكلم مع حد.. اتكلم مع مين يا حسرة…ثم انا ما عنديش تلفون!».
هكذا تهكم عادل إمام على الفساد والبيروقراطية في مصر في مسرحية «شاهد ما شافش حاجة». ولم تكن تلك النكتة الساخرة التي أطلقها عادل إمام بعيدة عن توصيف الحال في لبنان. فمثلاً تبلغ ميزانية مصلحة السكك الحديدية في لبنان 9 ملايين دولار تصرف سنوياً على الموظفين وعمال الصيانة رغم أن صفير القطار قد توقف في لبنان منذ عام 1975. وتبلغ ميزانية إدارة البريد والبرق 4.5 مليون دولار رغم أنه قد جرى خصخصة البريد عام 1998 لصالح نجيب ميقاتي!
نعم، لا شك أن لبنان يعاني من وضع اقتصادي خانق وفساد متفشٍّ يبرر الحراك الذي يشهده لبنان منذ ثلاثة أسابيع. وحري بالذكر أن أربعة عوامل أساسية قد أسهمت ولو جزئياً في تردي الوضع إلى درجات غير مسبوقة في تاريخ لبنان: أولها إيقاف كافة أنواع التعاملات الاقتصادية مع سوريا وما تلى ذلك من ضرر مباشر على المزارع والصناعي اللبناني إضافة لتفشي التهريب وحرمان الخزينة اللبنانية من عائدات الجمارك مما سبب بتدني الناتج الإجمالي المحلي من حوالي 10 بالمئة قبل 2011 إلى الواحد بالمئة تقريباً عام 2019. والعامل الثاني هو الحصار الاقتصادي المفروض على إيران وتأثيره على قدرة «حزب الله» على ضخ العملة الصعبة في السوق اللبنانية (تقدر بين مليار ومليارين سنوياً). والعامل الثالث هو تدني الإيرادات المالية من العمال اللبنانيين من الخليج وتحديداً السعودية لأسباب عديدة. والعامل الرابع هو تضرر القطاع السياحي اللبناني بسبب شبه مقاطعة تامة من معظم دول الخليج للسياحة في لبنان.
وفي بلد لا يتعدى فيه النمو الإقتصادي 1 بالمئة وفيما يقارب الدين من المئة مليار صار لبنان يحتل المرتبة الثالثة عالمياً بعد اليابان واليونان بنسبة الدين إلى الناتج الإجمالي. وتلتهم الفوائد على الديون نصف إيرادات الدولة وهي ديون أثقلت كاهل الشعب اللبناني نتيجة سياسات الحريري الأب وشركاه ومن حاباه من مختلف الطوائف منذ عام 1990 والتي اعتمدت على الاستقراض في سبيل النهب وإنشاء المشاريع الخاصة كـ«سوليدير» والأملاك البحرية وغيرها.
ولقد أدت السياسات غير المسؤولة من الحكومات المتعاقبة أضافة إلى الفساد والمحاصصة الطائفية والسياسات المالية النيوليبرالية التي تحابي كبار مالكي رؤوس الأموال والمصارف على حساب المواطن، أدت إلى تدهور مالي وإقتصادي خطير تنبأت به بعض مراكز الدراسات والمراقبين المختصين. ففي مقالة منشورة في 17 تشرين الأول من عام 2018 ومعنونة «الإعصار المالي اللبناني القادم» أكدت الكاتبة منى علامة من مؤسسة «كارنيغي» على الخوف من التردي الاقتصادي في لبنان مشيرة إلى قول فريد بلهاج نائب البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا: «إن لبنان ما زال يقاوم السقوط منذ وقت طويل»، وتوقعت الكاتبة في المقالة عدم قدرة البلد على المقاومة لوقت أطول.
إن لبنان لا ينقصة دستور ولا قوانين ولا مؤسسات. بل إن الدستور اللبناني وتعديل الطائف يكادان يكونان سباقين عالمياً من حيث الجودة والشمولية. ولكنه دستور ينقصه التطبيق! كما إن في لبنان مؤسسات من الممكن أن تكون في غاية الفعالية كالادعاء العام ومجلس القضاء الأعلى والمجلس الدستوري وقانون المحاسبة وقانون النقد والتسليف، ولكن الطائفية والمحاصصة عطلت هذه المؤسسات وشلّت قدراتها. بل وقامت الحكومات المتعاقبة بإنشاء مؤسسات مرادفة نتيجة للمحاصصة الطائفية يتبع معظمها لرئاسة مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس ولا تخضع لديوان المحاسبة، كالشركات المشغلة للخليوي ومجلس الانماء والاعمار وهيئة الإغاثة والريجي ومجلس الجنوب وكازينو لبنان وبنك التمويل والميدل إيست والسوق الحرة وغيرها.
ولكن في خضم الأزمة اللبنانية التي يعيشها لبنان اليوم يقول بعض المراقبين إن هذا الحراك قد يكون ابتدأ عفوياً، لكن المصطادين في الماء العكر من الدول الأجنبية ومن يحركونهم في الداخل لا يجلسون على مقاعد البدلاء، بل قد انضموا إلى اللاعبين على أرض الميدان.
ففي 16 تشرين الأول 2019، أي يوم واحد قبل بدء الحراك نشرت «واشنطن بوست» مقالة لكاتبها ديفيد إيغناتيوس عن الدور الأميركي المقبل في لبنان قال فيها:
«كيف ستكون الدولة اللبنانية القوية؟ أولاً، سيكون من الأفضل التأكيد على السيادة، بدءاً من الحدود. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على الولايات المتحدة الضغط لاستئناف مفاوضات القنوات الخلفية لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل. وقد بدأت محادثات ترسيم الحدود هذا العام، تحت مظلة الأمم المتحدة، ولكن تعثرت بعد ذلك. وبعد ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تساعد لبنان في إقامة حدود حقيقية تمنع التهريب مع سوريا. وفي مقابل تعميق دعمها للبنان، ينبغي على الولايات المتحدة أن تطالب ببعض الإصلاحات العاجلة. فلبنان يحتاج إلى هيئة تنظيم اتصالات حديثة، كخطوة أولى نحو خصخصة قطاع الاتصالات المملوك للدولة إلى حد كبير، والذي يمكن أن يؤمن 6 مليارات دولار. كما أن لبنان بحاجة إلى خصخصة شركة الكهرباء غير الكفوءة والتي تديرها الدولة، والتي قد توفر ما يصل إلى ملياري دولار. إن النظام السياسي الطائفي في لبنان وزع الحصص في هذين القطاعين الرئيسيين، إلى جانب حوالي 100 مؤسسة صغيرة مملوكة للدولة. ربما يحصل «حزب الله» على الحصة الأكبر من هذه القسمة، لكن الطوائف الأخرى تأخذ حصصها أيضاً. إنه نظام فاسد، وقد حان وقت التغيير منذ زمن طويل».
ينهي الكاتب مقالته بهذة الفقرة: «إن العمل على إفلاس لبنان من أجل الضغط على إيران، كما ينصح بعض موظفي الإدارة الأميركيين سيكون عملاً آخر أحمق من قبل إدارة ترامب التي اقترفت العديد من الأخطاء في الشرق الأوسط حتى الآن».
باختصار، إن استثمار «الثورة» من الخارج حسب الكاتب سيكون عبر هدفين: ترسيم الحدود والخصخصة.
كذلك ثمة رأي آخر يتلخص بأن الأميركيين قد اتخذوا قراراً بإخراج «حزب الله» وحلفائه، وتحديداً وزير الخارجية جبران باسيل، من أي حكومة مقبلة وذلك على خلفية تصريحاته ومواقفه الداعمة للمقاومة في المحافل الدولية، وبالتالي فلا محيص من حكومة غير سياسية تلبي هذا الهدف.
وبين مطالب الحراك المحقة والخوف من انزلاق الثورة نحو أجندات خارجية، لا شك أن لبنان يشهد حدثاً هو الأول في تاريخه حيث وحدت الهموم المطلبية الطوائف وعبرت المذاهب في مشهد غير مسبوق. وستكون الأيام المقبلة حاسمة في تشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية، أو مطعّمة بسياسيين، وهي حكومة يجب أن تعطى صلاحيات تشريعية استثنائية للنهوض بالبلد، أو أقله لتفادي السقوط نحو الهاوية.
Leave a Reply