صبحي غندور
لقد مرّ أكثر من ستّة عشرة عاماً على إشعال شرارة الحروب الأهلية العربية المستحدثة في هذا القرن الجديد، والتي بدأت من خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، ثمّ من خلال اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005، ثمّ بالمراهنة على تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، ثمّ بتقسيم السودان في مطلع العام 2011 وفصل جنوبه المختلف دينياً وإثنياً عن شماله، ثمّ بتحريف مسارات الحراك الشعبي العربي الذي بدأ بتونس ومصر متحرّراً من أي تأثير خارجي، وسلمياً في حركته، فانعكس على دولٍ عربية أخرى، لكنّه انحرف عن طبيعته السلمية المستقلّة بسبب التأثيرات والأجندات الإقليمية والدولية المختلفة، كما حدث ويحدث في ليبيا واليمن وسوريا، حيث أراد بعض هذه الأجندات توظيف الانتفاضات الشعبية العربية لكي تكون مقدّمةً للسيطرة والهيمنة من جديد على المنطقة، من خلال إشعال الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، ولتغيير سياسات وخرائط أوطان، وليس حكومات وأنظمة فحسب.
وقد رافق، في القرن الحالي، هذه الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض العربية لعقدين من الزمن، نموّ متصاعد ومدعوم من الخارج لجماعات التطرّف المسلّحة التي استغلّت حالات الفوضى والعنف لكي تمتدّ وتنتشر، كتنظيميْ «داعش» و«النصرة»، بعدما صنعت والدتهما «القاعدة» لنفسها قيمة دولية كبرى من خلال أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى بالعالم.
واستغلّت إسرائيل هذه الصراعات العربية البينية وساهمت بتأجيجها، فواصلت عمليات الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مراهنةً أيضاً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراعٍ عربي–إسرائيلي إلى صراعاتٍ عربية–عربية، وعربية–إسلامية، وعلى تقسيمات طائفية ومذهبية تبرّر أيضاً الاعتراف العربي والعالمي الشامل بإسرائيل كدولةٍ يهودية.
هو انحطاط، وهو انحدارٌ حاصلٌ الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدامَ السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها، وفي صراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنةُ الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعفُ الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي، إضافةً لتغييب دور مصر الريادي الإيجابي في الأمّة العربية.
ومهما حدثت تطوّرات إيجابية على الأزمات العربية الراهنة، فإنّ السؤال يبقى: ما ينفع أن تخرج هذه الأزمات من النفق المظلم بينما تستمرّ عيون العرب معصوبةً بسواد الانقسامات الطائفية والمذهبية، وأياديهم مقيّدةً بسلاسل الارتباطات الخارجية؟
واقع الحال العربي الآن هو أشبه باللوحة الشهيرة: «موناليزا» أو «الجيوكاندا» التي رسمها الفنان الإيطالي دافنشي، حيث الابتسامة الجميلة في جانبٍ من الوجه وملامح الحزن في الجانب الآخر. فما حدث مؤخّراً من حراكٍ شعبي في السودان والجزائر، ثمّ في العراق ولبنان، أكّد حيوية شعوب البلاد العربية وعدم قبولها بالاستسلام لواقع سياسي فاسد يتحكّم بها رغم إرادتها. لكن ما زالت هذه البلدان التي تشهد انتفاضاتٍ شعبية مهدّدةً بمخاطر أمنية وسياسية عديدة.
«لا يصحّ إلّا الصحيح»، هو قولٌ مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل. لكن واقع حال العرب لا يسير في هذا الاتّجاه، إذ أنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على شعوب الأمّة العربية، وعلى أوطانها المبعثرة. فهل يعني ذلك أن لا أمل في وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟ أم ربّما ترتبط المشكلة في كيفية التفاصيل وليست في مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحقّ، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعدُ كلّها في مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية. وبعض هذه العناصر هو ذاتي في داخل جسم الأمّة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب في الاتّجاه الصحيح.
وصحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟ ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم «الجماهير العربية»، وعن المفكّرين والعلماء والإعلاميين الذين يُوجّهون عقول «الشارع العربي»؟
فمفهوم «الدولة» القائم على ثلاثية: «الأرض والشعب والحكم»، ما زال موضع نقاش لدى القوى السياسية العربية المتنافسة على المعارضة وعلى الحكم، والتي ينزع بعضها إلى «نظام الفيدرالية» وإلى اللامركزية السياسية، وهو أمر يمسّ جوهر وحدة الأرض والشعب والحكم. فأيُّ وطنٍ للمستقبل يريده المنتفضون والساعون للتغيير في بعض البلاد العربية؟ وهو السؤال الذي لم يجد بعدُ إجابةً شافية يتّفق عليها من هم في ساحات وشوارع بلاد العرب المنتفضة الآن!
وكم هو مؤسفٌ ومحزنٌ معاً أن تقترن الديمقراطية في المنطقة العربية بسمات الاحتلال الأجنبي من الخارج وبالانقسام الطائفي والعرقي من الداخل، وبنموّ المشاعر المعادية للانتماء العربي وللهويّة العربية المشتركة. فقد كانت هذه أيضاً هي سمات صراعات وخلاصات حصلت في أجزاء عديدة من الأرض العربية: دعوة للتدخّل الأجنبي المباشر وحماية بعض الداخل من بعضه الآخر بقواتٍ أجنبية، ثمّ عمليات سياسية ديمقراطية غذّت الفرز الطائفي والمناطقي أكثر ممّا كانت تعبيراً صحّياً سليماً عن تعدّدية في المجتمع وتنوّع في التركيبة السياسية والعقائدية.
ولو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا «وطنه العربي الكبير»، ولا قضيّته الكبرى فلسطين، فالأمَّة الواحدة أصبحت الآن «أمماً»، وفي كلٍّ منها «أممٌ متعدّدة» بتعدّد الطوائف والأعراق والعشائر، ولدى كلٍّ منها أزمته الحادّة وصراعاته المفتوحة دون أن يلوح أفقُ أملٍ أو حلٌّ قريب.
إنّ وجود حكوماتٍ فاسدة واستبدادٍ سياسي وبطالة واسعة وفقرٍ اجتماعي وغيابٍ لأدنى حقوق المواطنة المتساوية وللحرّيات العامة وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، كلّها عناوين لانتفاضاتٍ شعبية جارية أو كامنة، وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على امتداد الأرض العربية. لكن ماذا بعد الانتفاضات، وعلى أساس أيِّ برنامجٍ للتغيير؟
إنّ الممارسة الديمقراطية السياسية السليمة يُعبّر عنها عمليّاً في المجتمعات التي لا تخضع للاحتلال أو الهيمنة الخارجية، وتكون العملية الديمقراطية مرتبطة بكيفية اختيار الحكومات (السلطة التنفيذية) وبالرقابة عليها (السلطة التشريعية) وبالمحاسبة لها (السلطة القضائية)، وبحقوق المواطنين المتساوية في المشاركة بالحياة السياسية والاجتماعية، وبضمان الحرّيات العامّة للأفراد والجماعات. لكن الحرّية، قبل أن تُمارَس كعملية دستورية ديمقراطية بين المواطنين، هي حرّية الأرض وحرّية الوطن وسيادة الشعب على أرضه وقراره الوطني.
في الوقائع الآن، أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي. ويترافق مع «وقائع» التدويل الجارية حالياً، وجود «وقائع» إسرائيلية تقوم على سعيٍ متواصل منذ عقودٍ من الزمن لدعم وجود «دويلات» طائفية وإثنية في المنطقة العربية. وفي الأفق الآن، مشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفدرالي «الديمقراطي»، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوًى في الخارج ومدعومةٍ بتدخّلٍ أجنبي متعدّد الأطراف على أبواب الأمّة العربية. تلك الأمّة التي بدأت كياناتها الوطنية الكبرى تتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى، وكلُّ من فيها من أوطان وجماعات بما لديهم منشغلون!
وهاهو «الانتداب الأجنبي» الذي خرج من أوطان عربية مركولاً من قبل أهل الدار، يعود الآن من نوافذ عديدة في المنزل العربي المصدّع والمهدّد بالانهيار.
Leave a Reply