وليد مرمر
لقد بدأ الحراك اللبناني عفوياً ولاقى في الأيام الأولى تأييد معظم فئات الشعب اللبناني.
كانت صرخات اللبنانيين صادقة ومعبرة عن شرائح الأكثرية المهمشة ذات الحقوق المهدورة والتي تعاني من نظام المحاصصة الطائفي العفن. فمثلاً علت أصوات العاطلين عن العمل وأصحاب الأجور المتدنية والمتعاقدين غير المثبتين، والمحرومين من الضمان الاجتماعي، والمتقاعدين والأمهات اللواتي لا يستطعن إعطاء الجنسية لأبنائهن والمرضى الذين لا يستطيعون تأمين فواتير الاستشفاء.. إلخ.
لكن المحظور وقع بعد أيام قلائل. فما حصل في معظم الثورات الحديثة حصل أيضاً في لبنان. فما أن أصبح الحراك الشعبي أمراً ضاغطاً على الوضع السياسي حتى قامت الأجهزة والسفارات بامتطائه لتنفيذ أجنداتها التي عجزت عن تنفيذها خلال أيام الحرب والسلم.
إن وقوفنا كلبنانيين للدفاع عن هذا الوطن الذي ولد فيه أجدادنا وأباء أجدادنا ليس وقوفاً ضد الأصوات البريئة والمحقة في الحراك. ولكن الخيط بين الخيانة والجهل أرفع مما يتصوره البعض، بل قد يكون الجهل أشد إيلاماً وأعظم تبعة من الخيانة. وسأوضح هذه الفكرة بإيجاز من خلال مثال تاريخي. ففي الأثر المشهور عن النبي (ص) أنه قال مخاطباً أمير المؤمنين علياً (ع): «يا علي، أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين قاتلك»! مفاد الحديث النبوي أن ابن ملجم هو أشقى الآخرين قاطبة. أي إنه أشقى من الملك البلجيكي ليوبولد الثاني قاتل الملايين في الكونغو، وأشقى من بيل كلينتون قاتل مليون طفل في حصار العراق، وأشقى من محمد بن سلمان قاتل أطفال اليمن بالأسلحة الجرثومية. بل هو أشقى من كل العتاة والجبابرة، بمن فيهم فرعون الذي قال: «أنا ربكم الأعلى»!
لكن القدر المتيقن أن ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين كان مسلماً موحداً ومؤمناً بنبي الإسلام. وهو الذي صرخ عند ضرب أمير المؤمنين لدى سجوده: «الحكم لله وليس لك يا علي»، فهل نفع ابن ملجم حسن نواياه (لو صحت)؟ وهل كان جهله بعليّ، وما أدراك ما عليّ، شفيعاً له؟ لا….فالجهل قد يؤدي بصاحبه إلى التهلكة مثله مثل الفسق والعصيان. والطريق إلى جهنم معبدة بالنوايا الحسنة!
بالعود إلى الحراك اللبناني، لا يختلف اثنان على أن السلطة الفاسدة عبر عقود قد أوصلت البلد إلى حافة الانهيار. ولكن العلاج هو ليس بالفوضى الخلاقة التي يدعو إليها الحراك لأن الفوضى هي أم كل الشرور. وسأحاول في هذه العجالة إبراز بعض الشبهات والحقائق حول هذا الحراك.
– الشبهة الأولى: الوضع الاقتصادي والمالي خطير والبلد على وشك الانهيار بسبب هذه السلطة وهناك على الأقل أربع حالات انتحار بسبب الضائقة المادية…
– نعم، يعاني لبنان من ضائقة اقتصادية خانقة بسبب عوامل عديدة. ولكن قبل بدء الحراك كانت القطاعات الاقتصادية تسير بشكل بطيء مع نمو لا يتعدى 0.3 بالمئة، غير أن تدني التحويلات الخارجية بسبب تراجع العمالة الخليجية وبسبب بعض العقوبات الأميركية غير المعلنة أدى إلى تأزم الوضع الاقتصادي وسط دور مشبوه للحراك ومن خلفه المصارف. فالمصارف ظلت تتمتع بثقة المودعين اللبنانيين والأجانب حتى في أشد أيام الحرب الأهلية والاجتياح، إلا إن الفوضي والشلل اللذين تسبب بهما الحراك أديا إلى إغلاق المصارف لأطول فترة في تاريخ لبنان فيما تظل القيود التي تفرضها البنوك على سحوبات الدولار سيفاً مسلطاً على الليرة اللبنانية، لاسيما بعدما تبين أن أربعة مليارات دولارات سحبت من المصارف منذ مطلع أيلول (سبتمبر) وهو أدى إلى هلع المودعين في ظل تجفيف الدولار من السوق. وهذا يذكرنا بما حصل لـ«بنك انترا» عام 1966.
أما عن حالات الانتحار، فأولاً إن أعلى معدلات الانتحار تسجل في الدول الاسكندنافية التي تعتبر في مصاف البلدان الأكثر تطوراً في العالم. ثم لو فرضنا أن الحالة الاقتصادية الخانقة كانت سبب تلكم الحالات فهل هذا مبرر لقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو فساد في الأرض؟ لقد حوصر النبي وأهل بيته في أول الدعوة في شعب أبي طالب ومنع عنهم كل أنواع المعاملات والبيع والشراء. ولقد أكل بنو هاشم بقل الأرض وكان النبي يشد على بطنه الحجر من الجوع، ويروي المحدثون أن بعض صغار أطفال بني هاشم قد قضوا من الجوع في تلك الفترة ولم نسمع أن أحدا من رجالهم انتحر لأجل ذلك. ولنا أيضاً في التاريخ الحديث عبرٌ جلية. فلقد مات يا يقارب من المليون طفل في العراق أثناء حصار كلينتون له. ومات أطفال اليمن ومازالوا يموتون جوعاً بسبب حصار ابن سلمان… ولكننا لم نسمع بحالات انتحار لأهالي الأطفال الذين قضوا جوعاً في العراق أو اليمن. فهل هؤلاء بلا عزة أو كرامة؟ طبعاً لا… بل تحلوا بالصبر والتوكل واحتسبوا خسارتهم عند الذي لا يضيع عنده أجر الصابرين. إن إيجاد الأعذار لمن يقتل النفس التي حرم الله، هو أمر سقيم لا يستقيم بحال. وهو منبوذ من كافة الديانات بل وحتى المنظومات غير الدينية. وحتى في أفضل المدنيات ما زال «القتل الرحيم» للمرضى الميؤوس من شفائهم والذين يرغبون بالموت ويعانون من أوجاع لا تنفع معها العقاقير، ما زال غير قانوني والمساعدة على إنهاء حياتهم جريمة يعاقب عليها القانون.
إن للحياة حرمة في كل الشرائع وضعية كانت أو سماوية. فما هذا الاستخفاف الذي رأيناه من بعض من قدس وبجل بل وشجع عمليات الانتحار! ثم أين الجوع في لبنان؟ وهذه المساجد والكنائس والجمعيات والمنظمات لا ترد أحداً؟
إن لبنان ما زال يحافظ على الحد الأدنى من التكافل الإجتماعي ولم يصل الأمر إلى عشر ما وصل إليه في العراق واليمن. إن القداسة هي للحياة ولبقاء الحياة والذود عنها، فلا يستخفن أحد بعقولنا. وليس البلاء مهما اشتد مسوغاً لقتل النفس.
– الشبهة الثانية: دعوى الحراك إلى حكومة تكنوقراط غير سياسية نتقذ البلد هي دعوة محقة.
– هذه مغالطة موغلة في السفسطة وهي من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان. فأولاً من المعروف في كل الديمقراطيات البرلمانية أن الحكومة تؤلفها الكتل الكبيرة في البرلمان الذي يمنح الحكومة بدوره الثقة. ثانياً، ليس هناك شيء اسمه تكنوقراط فإن كل اللبنانيين لهم ولاءاتهم وآرائهم السياسية. ثم أليس مجلس الوزراء مجلساً سياسياً بامتياز بحسب الدستور اللبناني؟ فكيف إذن المطالبة بوزراء غير سياسيين لتبوء وزارات سياسية بحتة؟ أما إذا كان المقصود هو توزير أفراد من غير هذه الطبقة الحاكمة فهذا انقلاب ديكتاتوري على نتائج الانتخابات التي فازت فيها أحزاب السلطة ولم يفز فيها المجتمع المدني إلا بمقعد واحد (بولا يعقوبيان في بيروت)! في الواقع إن الهدف من وراء هذا المطلب هو إبعاد المقاومة والتيار عن السلطة تنفيذاً للأجندات الخارجية معروفة الأهداف.
على سبيل المثال، في الحكومة المستقيلة عدة حقائب لوزراء اختصاصيين غير سياسيين كحقيبة الصحة التي يشغلها الدكتور جميل جبق والذي سماه «حزب الله». ولكن أدبيات الدكتور جبق وسلوكياته لا تنطبق مع المعروف من أدبيات وسلوكيات «حزب الله». فالرجل يرتدي ربطة العنق ويحلق ذقنه على الشفرة ويصافح باليد، والمعروف أن هذه الأدبيات تتنافى مع أدبيات الحزبيين. فهل الوزير جبق هو تكنوقراط؟ وهل توافق «الثورة» مثلاً على توزيره؟ سيما وأنه قد أنجز خلال الفترة القصيرة التي كان فيها في السلطة الكثير على كافة الصعد الصحية. وكان آخر هذه الإنجازات القرار الذي أخذه الأربعاء الماضي بتخفيض سعر الدواء 30 بالمئة رغم ارتفاع أسعار كل السلع الأخرى. ولم نسمع من الحراك (الذي لا يهمه المرضى ولا الدواء) كلمة واحدة تشكر هذا الجهد الجبار!
– الشبهة الثالثة: المعارضون للحراك هم من أصحاب نظرية المؤامرة.
– إنها ليست نظرية بل هي أسطع من شمس النهار لمن نظر فأبصر ولم تعم الفتنة بصيرته. وحسبك تصريح بنيامين نتنياهو قبل أيام حين قال بأن «المظاهرات في لبنان والعراق وإيران تعطي فرصة كبيرة لتعزيز الضغط على النظام الإيراني». ثم هناك شهادة فيلتمان أمام الكونغرس حيث أكد أن ما حققته التظاهرات في أيام قليلة أدى إلى تصدع صورة «حزب الله» «محققاً ما عجزنا عن إنجازه في سنوات». ثم إن القاصي والداني يعلم بأن منظمات المجتمع المدني تأتمر من ممولها وتتبنى أجنداته.
الحراك لم يخف ارتهانه عندما ثُبتت علنا وبكل وقاحة في الساحات «قبضة اليد» التابعة لـ«جورج سوروس». وما أدراك ما جورج سوروس! إنه ملياردير يهودي أميركي، جنى المليارات عبر المضاربة بالبورصات والعملات ثم بدأ عمله «الخيري» بالتغلغل بمنظمات المجتمع المدني واليسار على حد سواء! هو بالحقيقة من ممولي معظم الثورات الملونة ولم تغادر قبضته أياً من ساحاتها. أنشا سوروس منظمة «المجتمع المفتوح» في كل العالم للسيطرة على المنظمات المدنية والفئات الشبابية عبر نشر التعاليم الليبرالية المفسدة للمجتمعات. يمول سوروس برامج التدريب والمؤتمرات وورش العمل للشباب داخل البلدان المستهدفة لاستعمالهم في «الثورات» المعدة مسبقاً. وهو قد أنشأ ما يسمى بـ«الصندوق الوطني للديمقراطية» الذي يمول أنشطة تجنيد الشباب في أكثر من 90 بلداً في العالم. وهو يمول أيضاً «مجموعة الأزمات الدولية» وهي مجموعة تضم أعضاء في أميركا وأوروبا وإسرائيل، وهي من أخطر المؤسسات التي تعمل لتفكيك الدول «المارقة». وهذه المؤسسة هي التي قادت الحملة لفصل جنوب السودان ودارفور، وتعمل لإثارة النعرات القبلية في شمال السودان، وتسعى لتقسيم اليمن والعراق وبث بذور الفرقة وقلاقل الفتن في الدول العربية. أي باختصار، إن سوروس هو مقاول «النظام العالمي الجديد» ونشر «الفوضى الخلاقة» وذلك عبر التغلغل في المجتمعات بغطاء الجمعيات المدنية والأحزاب الليبرالية واليسارية وعبر «الثورات الملونة».
– الشبهة الرابعة: الحراك يدعو إلى إسقاط النظام الطائفي الفاسد.
– كما قلت آنفاً ليس للحراك أجندات إلا ما يملى عليه من دوائر السيطرة والقرار. والمعلوم أن كل الثورات الملونة منذ أوكرانيا وجورجيا وصولاً إلى «الربيع العربي» كان محظوراً على الثوار المناداة بتغيير المنظومات السياسية الحاكمة، بل جل المسموح به هو المطالبة بتغيير أشخاص معينين داخل المنظومة باعتبارهم «عبء» على النظام العالمي. لذلك لم ترفع لافتة واحدة في كل التظاهرات «الثورية» تدعو إلى إسقاط أو تغيير أو حتى إصلاح الدستور الذي هو أساس كل البلاءات الطائفية. فدستور الطائف منزّه عن أي انتقاد طالما أنه طالب بإلغاء الطائفية السياسية دون أن يحدد ما هي، أم أنه منزّه لأنه يؤمن نفوذ السعودية التي ابتلعت الطائفة السنية في لبنان لتسيطر على السلطة التنفيذية فيه؟ كيف لثورة يقودها العلمانيون والمنظمات المدنية أن ترضى بنظام محاصصة طائفي بل وتمنع من المس به أو حتى انتقاده من بعيد أو قريب، ولو حتى بلافتة؟
وللمفارقة، فإن الدستور اللبناني ينص على أن من صلاحيات مجلس الوزراء –الذي يريده «الثوار» من غير السياسيين–: «وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات». أليست بذلك «حكومة التكنوقراط» متنافية مع الدستور؟ فلماذا لا يتحدثون عن تغيير الدستور بدلاً من الدعوة إلى استشارات نيابية على وجه السرعة؟ أم أنهم يريدون حكومة تكنوقراط لمرة واحدة فقط؟
– الشبهة الخامسة: الحراك هو خلاص لبنان
– بنظرة سريعة إلى بعض البلاد العربية التي طالتها «لعنة سوروس» و«الفوضى الخلاقة»، كسوريا والعراق واليمن وليبيا يمكننا استكناه ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في لبنان. وغني عن القول إن السببين الوحيدين الذين يمنعان قوى الشر من أخذ لبنان إلى الهاوية هما أولاً الخوف من سقوطه في يد إيران بالكامل، وثانياً بسبب خوفها من تدفق ملايين اللاجئين اللبنانيين والسوريين إلى أوروبا التي تبدأ حدودها قبالة سواحل طرابلس، في جزيرة قبرص!
إن موقع لبنان الحساس بالنسبة لأوروبا، ووجود قوة وحيدة قادرة على أخذ البلد عنوة وفي ساعات محدودة إلى محور معروف، هما السببان اللذان يؤخران مشروع سوروس الهدام. إن غوغائية وجهل الحراك يمكن أن يأخدا لبنان إلى الفوضى لولا تعقل الأميركيين وعلمهم أن الفوضى لن تخدم إلا الفريق الآخر. وربما هذا ما حدا بالكونغرس إلى الإفراج عن المعونة العسكرية للجيش اللبناني وإلى حث اللبنانيين –عبر الأوروبيين– على الإسراع بتشكيل الحكومة تفاديا للسقوط في المحظور. لكن في مقابل الجهود الأميركية والأوروبية لتلافي الفوضى، يتحرك المشروع السعودي بما تيسر من أدواته وقواعد لضرب المقاومة عبر استفزازها المستمر أملاً بـ«7 أيار» جديد يستدعي تدويلاً وتدخلاً عسكرياً مباشراً.
تلك وثائق ويكيليكس لسنة 2010 تؤكد أن السعودية دعت حينها لتشكيل «ناتو عربي» ليحتل لبنان بمساندة جوية (كما حصل في ليبيا). وبالخلاصة فاستقرار لبنان –ولو نسبياً– هو مصلحة أميركية–أوروبية لها تقاطعاتها مع الملف الإيراني، أما الفوضى فهي مشروع سعودي–إسرائيلي يهدف عبر بعض شرائح الحراك إلى إدخال لبنان في نفق مظلم لن تقوم له بعده قائمة.
Leave a Reply