كمال ذبيان – «صدى الوطن»
دخل لبنان أزمة مالية واقتصادية حادة، سبق وكتبنا في «صدى الوطن» حولها، قبل أشهر، لا بل سنوات، محذرين من وقوعها بسبب السياسات المالية والاقتصادية التي اتّبعت منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، وتحديداً بعد تسلم الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة في نهاية العام 1992، وإطلاق حقبة «الحريرية السياسية» التي بدأت بتعيين رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، فاعتمد سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، من خلال إيداع سندات خزينة بفوائد عالية، وصلت إلى 42.5 بالمئة، فتعطّلت حركة الإنتاج، لصالح إقتصاد ريعي يقوم على الفوائد، وهو أوقع لبنان في دوامة الاستدانة بعد أن خرج من الحرب الأهلية بدين عام لم يتجاوز مليار دولار.
ظهور الأزمة
عملياً بدأت ملامح الأزمة الاقتصادية التي يعيشها اللبنانون اليوم، بالظهور منذ العام 1996، بعد ثلاث سنوات فقط، من بدء سياسة الاستدانة تحت شعار رفعه الحريري الأب، وهو «إعادة الإعمار»، الذي كان مطلوباً بل ضرورياً بعد الدمار الذي خلّفته الحرب الأهلية، وتهالك البنى التحتية، وتراجع الخدمات العامة من طرقات وكهرباء ومياه وهاتف إلخ…
إلا أن الحريري ركّز في مشروعه الإعماري على وسط بيروت، بعد أن أنشأ شركة خاصة لإعادة إعمارها باسم «سوليدير»، كان هو رئيسها، وساهم بسن قوانين في مجلس النواب لصالح هذه الشركة، دون الالتفات إلى أصحاب الحقوق من المالكين والمستأجرين، في العاصمة التي فقدت في عملية إعادة الإعمار تراثها وأسواقها، بينما جرت محاولات من نواب وقوى سياسية وفعاليات اقتصادية لمنع تغيير معالم بيروت التي تعتبر من المدن الأولى في التاريخ على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت فيها أول مدرسة أو جامعة للحقوق في زمن العصر الروماني!
الإعمار الذي غاب عن المحافظات وتركز في بيروت متسبباً على مر السنين بنزوح سكاني كثيف إلى العاصمة وضواحيها، أدت من خلال الاستدانة إلى زيادة الدين العام في لبنان وخدمته، حتى وصل خلال أربع سنوات إلى حوالي 15 مليار دولار، بسبب الفوائد المرتفعة. وقامت معارضة نيابية وسياسية ضد الحريري، محذرة من ذهاب لبنان إلى الانهيار عاجلاً أم آجلاً، إذا ما اعتمد على الاستدانة، فيما صُرفت الأموال على مشاريع غير منتجة.
وكان رئيس الحكومة آنذاك، يردد بأن «السلام مع إسرائيل قادم»، بعد اتفاق أوسلو بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية في نهاية 1993، وكان من ضمن بنوده تأجيل البحث في حق العودة للنازحين الفلسطينيين، كما في القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وكذلك في بناء المستوطنات. لكن ذلك الاتفاق المشؤوم، لم يعط الفلسطينيين حقوقهم، بل أقام لهم سلطة، هي أشبه «بإدارة ذاتية»، بينما طرح الأميركيون الذين كانوا يرعون عملية السلام، توطين الفلسطينيين في لبنان، مقابل سداد ديونه، وقد انكشف المخطط الأميركي، الذي تمّ التصدّي له من قوى رافضة له، لبنانية وفلسطينية، فسقطت رهانات الحريري وآخرين، بأن السلام مع إسرائيل سيكون لصالح لبنان، الذي كان يراد له أن يكون منتجعاً سياحياً، فأصاب ذلك، الاقتصاد اللبناني في مقتل منذ ذلك الوقت.
مؤتمر أصدقاء لبنان
مع انكشاف المخطط الأميركي، ومماطلة إسرائيل في تطبيق بنود اتفاق أوسلو لاسيما بعد اغتيال رئيس وزراء الاحتلال إسحق رابين، راح لبنان يغرق في ديونه أكثر فأكثر، حتى لم تعد سياسة الاستدانة بفوائد عالية قادرة على إنعاش الاقتصاد الذي أخد يراوح مكانه، فقام الحريري بالاتفاق مع الإدارة الأميركية، بالدعوة لمؤتمر دولي في واشنطن سمي بـ«أصدقاء لبنان» عام 1997.
لكن المؤتمر الأول من نوعه لم يحظَ بالدعم المطلوب، للحفاظ على الاستقرار النقدي والاقتصادي، فلجأ الحريري إلى المصارف التجارية لتقدم أربعة مليارات دولار بفائدة صفر بالمئة، بعد أن حققت أرباحاً من سندات الخزينة، لكن هذا الإجراء، لم يحسّن الوضع الاقتصادي، واستمرّت سياسة الاستدانة بإغراق لبنان، إلى أن انتُخب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية في نهاية 1998، فأزاح الحريري من رئاسة الحكومة، وأتى بالرئيس سليم الحص لرئاسة الحكومة ومع جورج قرم وزيراً للمالية، لإنقاذ الوضع المالي والاقتصادي الذي أسسه الحريري.
غير أن الفترة الوجيزة التي قضاها الحص على رأس الحكومة، وإن تخللها تحريك للشارع ضدّه، شهدت وضع سياسة مالية واقتصادية جديدة، فمنعت مخططات بيع القطاعات العامة الحيوية مثل الهاتف الخلوي والكهرباء كما أجري خلالها إصلاح إداري لهيكلة مؤسسات الدولة، وتخفيف الأعباء عن الخزينة، إلا أن هزيمة الحص بالانتخابات النيابية التي فُصّلت على قياس الحريري في بيروت (قانون غازي كنعان لانتخابات 2000) دفعته إلى الاستقالة من الحياة السياسية فعاد الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد إنفاق انتخابي غير مسبوق في لبنان، ودعم من المسؤولين السوريين الذين كانوا متسلمين الملف اللبناني بعد الحرب الأهلية، وهم عبدالحليم خدام والعماد حكمت الشهابي والعميد غازي كنعان، الذين منعوا لحود من تحقيق إصلاحات حقيقية، واسترداد المال المنهوب، برفض توقيف فؤاد السنيورة كوزير دولة للشؤون المالية ومسؤولين آخرين، وتمّ إقالة عدد من المدراء العامين وموظفي الفئة الأولى وسجن الوزير شاهيه برصوميان والنائب السابق حبيب حكيم، فأُجهض الإصلاح الذي كان الرئيس لحود يسعى إليه، وبدأت كرة ثلج الفساد وهدر المال العام وارتفاع الدين العام، تكبر مع عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة بينما تمّ إشغال المواطنين بالوجود العسكري والأمني السوري في لبنان، وتحميله مسؤولية الأوضاع إلى أن قرّرت واشنطن إسقاط التسوية الدولية–الإقليمية برعاية سوريا للوضع في لبنان، فكان القرار الأممي 1559 بإخراج القوات السورية من لبنان.
الأزمة المالية–الاقتصادية
الأزمة المالية–الاقتصادية، لم تظهر خلال الأشهر الأخيرة، بل إن بوادرها بدأت في منتصف التسعينات من القرن الماضي، لتنكشف خلال السنوات الخمس الأخيرة، ويبدأ التحذير من أن لبنان متّجه نحو انهيار حتمي إذا لم تحصل إصلاحات جذرية في نظامه المالي والاقتصادي، كما في وقف الهدر ومحاربة الفساد.
إذ أن الفترة الممتدة من 2005 حتى اليوم، بدأت تشهد تراجعاً في النمو وعجزاً سنوياً في الموازنة، باستثناء فترات قليلة ارتفع فيها النمو، عندما تمّ تحويل أموال لمغتربين وغيرهم بسبب الأزمة المالية لعام 2008 التي عصفت بأميركا وبعض دول الخليج لاسيما دبي في الإمارات.
ورغم تدفق المليارات إلى المصارف اللبنانية لم تتم الاستفادة من تلك الودائع التي تحوّل بعضها إلى السوق العقاري أو الخدمات السياحية كالمطاعم والملاهي التي شهدت فورة كبيرة في عدد من المناطق، دون أن أن يقام أي مشروع إنتاجي يؤمّن فرص العمل لمئات آلاف الشباب العاطلين عن العمل،.جميع تلك العوامل كانت تؤشّر إلى أن لبنان مقبل على أزمة مالية، لم يخفها رياض سلامة، ولكنه كان يؤكّد دائماً على وجود احتياطات كبيرة في مصرف لبنان، لكن تبيّن أن المصارف التي جنت أرباحاً خيالية من الفوائد على سندات الدين العام، نقلت أموالها او هربتها للاستثمار في الخارج، وتقدّر بعشرات مليارات الدولارات.
أين أموال المودعين؟
مع انتفاض الشارع على الواقع السياسي الفاسد، وارتفاع نسبة البطالة والفقر، فوجئ اللبنانيون من أصحاب الودائع المصرفية، بأنهم لا يستطيعون سحب أموالهم، وقد بوشر بإجراء تدبير يعرف باسم «كابيتال كونترول»، ولا يسمح للمودع بسحب إلا مبلغ محدد، بدأ بألف دولار أسبوعياً ليهبط إلى 300 دولار في بعض المصارف ومئة دولار في مصارف أخرى، مما تسبّب بهلع وقلق لدى المودعين الذين تجمعوا في المصارف يسألون عن ودائعهم فلم يلقوا جواباً، لا من جمعية المصارف ولا من مصرف لبنان، ولا من الاجتماعات المالية التي عقدت في القصر الجمهوري. إذ بات النموذج الفنزويلي، هو الأقرب إلى اللبنانيين مع دخول البلاد في أزمة ركود اقتصادي على وقع الانقسامات السياسية، متسببة بركود كل القطاعات تأثراً بالأزمة النقدية، حيث تمّ صرف عشرات آلاف الموظفين من أعمالهم وتوقف رواتبهم فيما فقد آخرون جزءاً من مداخيلهم بعد تخفيض المؤسسات المتعثرة رواتبها إلى النصف وأكثر.
وقد أعلنت وزارة العمل عن إقفال مؤسسات وصل عددها إلى حوالي ثلاثة آلاف.
ومع استشراء الأزمة المالية، فإن موظفي القطاع العام باتوا أيضاً مهددين بفقدان رواتبهم، مع تراجع إيرادات خزينة الدولة إلى حوالي صفر بالمئة بين شهري تشرين الأول والثاني المنصرمين، بينما على الدولة أن تدفع فوائد الدين العام للمصارف التجارية المقرضة والتي بعضها مملوك لسياسيين بارزين مثل الحريري نفسه، بينما تحجز تلك المصارف أموال المودعين.
كما أن استمرار الفراغ الحكومي يهدد بمزيد من الانهيار، مع تحذير المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار جاه، بأن نسبة الفقر في لبنان تتّجه لتصل إلى 50 بالمئة، وهو مؤشر خطير جداً.
الحل؟
لبنان ليس البلد الوحيد الذي يمرّ بمثل هذه الأزمة، فقد سبقته دول كاليونان والأرجنتين وقبرص وغيرها، وهو مرّ بأزمة «بنك أنترا» في العام 1966، كما أن الحلول المطلوبة للخروج من الأزمة ليست بعيدة المنال، بل تتطلب تشكيل حكومة تعمل على الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد منتج زراعياً وصناعياً، وإدارة الدين العام البالغ 86 مليار دولار، وخفض وترشيد الإنفاق العام، ومكافحة الفساد ووقف الهدر، ومعالجة أزمة الكهرباء. ولكن على المواطنين اللبنانيين أن يدركوا أيضاً أن مواصلة أسلوب الحياة الاستهلاكية التي اعتادوها خلال السنوات الماضية لن تكون متاحة إذا ما أرادوا الخروج من الدوامة التي وضعوا فيها منذ تسعينيات القرن الماضي.
Leave a Reply