مريم شهاب
في كتابه البديع «التاج في أخلاق الملوك»، يذكر الجاحظ أن الملك يلزمه ألّا يشغل نفسه بصغائر الأمور. والتغافل عمّا لا يقدح المُلك، ولا يجرح المال، ولا يضع من العزّ، ويزيد من الأبهة. ومهما كان رأيك في الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومهما كانت مآخذك عليه، وهي ليست قليلة، فلا بد لك من أن تعترف بأن فيه من الصفات التي ذكرها الجاحظ الكثير. فهو لا يشغل نفسه بالصغائر التي يطلقها أعضاء من الحزب الديمقراطي ضد سياسته الداخلية والخارجية. كلما أطفأ ناراً أشعلوا أخرى في مشهد عبثي وغير مجدٍ في بلدٍ تاريخه وجغرافيته وتكوينه الاجتماعي، جعلت منه كياناً فريداً في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والثقافة والبناء وأنماط الحياة.
إن «الأكشن» الذي لا ينتهي بين الحزب الديمقراطي وبين الرئيس الجمهوري لا يقتصر على أروقة السياسة في واشنطن أو على الشاشات ومنصات الإعلام التي تكشف كل مستور –ولكل مسؤول عوراته وعثراته– بل أصبح تأييد ترامب أو معارضته مسألة في صلب الحياة السياسية في الولايات المتحدة، وساحة الخلاف ممتدة في طول البلاد وعرضها، ولولا القانون الذي يفكَّ كل تجاوز مهما كان موقعه أو قوته، فسوف ترى العجب العجاب وأسوأ بكثير مما يحدث في بلاد أخرى غرقت في أتون الفوضى والصراع الأهلي.
كان صعود نجم الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، صدمة موجعة للجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. في البداية عاملوا ترشحه للرئاسة كمجرد مغامرة فارغة لكسب المزيد من الشهرة. ولكن بعد فوزه الصاعق بالانتخابات، بدأت المحاولات الجدية لعزله حتى من قبل أن يدخل البيت الأبيض، فظهرت التهمة السخيفة بأنه عميل للمخابرات الروسية وأن الكرملين ساهم في نجاحه بالانتخابات!
كلفت تلك المزاعم غير المستندة إلى حقائق، دافعي الضرائب الأميركيين مبالغ طائلة في التحقيق والتدقيق، والنتيجة بعد سنتين ونيف… ماذا؟ «لم ينجح أحد».
بدل المعارضة البناءة الجديّة للرئيس، لم تنته «زكزكات» ومغامرات «توم وجيري»، فوجد الديمقراطيون أن اتصالاً أجراه ترامب مع رئيس أوكرانيا، يستدعي محاكمته وعزله، لا لشيء إلّا ثأراً من فوزه بالرئاسة الأميركية في غفلةٍ ممن استهزأوا به ووصفوه بالمتهور والمجنون والعنصري وعديم الخبرة بالسياسة… إلخ.
قد تكون كل تلك الاتهامات أو بعضها صحيحاً، ولكن بمقارنة بسيطة مع أسلافة من الرؤساء يتبين أنه رئيس مميز في التاريخ الأميركي، لاسيما بشعاره ووعوده الانتخابية حول استعادة «عظمة أميركا»، بعد عقود من التراخي والتراجع جرّاء مغامرات عالمية وحروب فاشلة لم تخدم الشعب الأميركي بشيء.
ولا أحد يستطيع أن ينكر أن ترامب أعاد تحريك جميع مكونات المجتمع الأميركي، بقرارات وسياسات داخلية عززت النزعة الوطنية ووسعت دائرة أنصاره. وبغض النظر عن توصيف وسائل الإعلام الرئيسية له، وجدت الطبقة الوسطى من الأميركيين البيض –في ترامب– زعيماً بكل ما للكلمة من معنى، فيما وجدت فيه الطبقات الأخرى تحدياً وانقلاباً على الطبقة السياسية التقليدية في البلاد. وأسلوبه المباشر والمستفز بصراحته يصدم الحلفاء أكثر من الأعداء والخصوم. وتغريداته النارية التي يتابعها الملايين على «تويتر» يومياً، جعلت من تعقيدات السياسة مادة متاحة للنقاش لجميع الناس، بعدما كانت مقتصرة على النخب فقط.
ينتهج الرئيس ترامب سياساته بوضوح وصراحة قلّ نظيرها، دون أن يلتفت كثيراً إلى مغامرات «توم أند جيري» الديمقراطية. يمضي قدماً في تنفيذ وعوده في الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة في العالم دون الانخراط في مشاريع العولمة. الآن، شغله الشاغل «حل» القضية الفلسطينية رغم إدراكه بأنها أكثر القضايا العالمية تعقيداً. وبغضّ النظر عن محتوى خطته للسلام، فلا لوم عليه في كل ما طرح، فهو يسعى لأن يكون رئيساً تاريخياً ينجز لبلاده والعالم ما لم ينجز أحد من قبل، لكن اللوم على الأمة العربية، من المحيط إلى الخليج، التي عجزت عن إنجاب زعماء وطنيين قادرين على النهوض ببلادنا والوقوف بوجه ترامب -ندّاً لندّ- ويقولوا له: القدس ليست ملكاً لك لتقدمها هدية لغيرك!
Leave a Reply