نٍك ماير – «صدى الوطن»
مع أنها تشتهر على المستوى الوطني بكونها تضم أكبر تجمع عربي خارج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أن منطقة مترو ديترويت تستضيف –في الوقت نفسه– أكبر تجمع للكلدان في العالم، حيث ينوف عددهم على 160 ألف نسمة، وفقاً لـ«مؤسسة الجالية الكلدانية».
وكما غدت مدينة ديربورن «عاصمة العرب الأميركيين في الولايات المتحدة»، فقد أصبحت الضواحي الشرقية لمدينة ديترويت عاصمة عالمية للكلدان الذين ينحدرون من شمال بلاد ما بين النهرين في العراق وسوريا، وهي المنطقة المعروفة في الأوساط التاريخية والأكاديمية بأنها «مهد الحضارة الإنسانية».
وطن الكلدان الجديد، ليس مجرد منطقة استقطبت –منذ بدايات القرن الماضي– الموجات المتلاحقة من العراقيين المسيحيين الذين غادروا موطنهم الأصلي بحثاً عن الأمان وفرص العيش الكريم، وإنما شكل فضاء رحباً لازدهار التراث الكلداني الذي تمتد جذوره لأكثر من خمسة آلاف عام، ولعل المتحف الكلداني الجديد الذي افتتح في العام 2017 بمدينة وست بومفيلد أكبر شاهد على ذلك، خاصة وأنه المتحف الأول والوحيد من نوعه في العالم اليوم.
هجرة الكلدان الأوائل إلى الولايات المتحدة، كانت قد بدأت أوائل القرن العشرين، وكانت منطقة ديترويت وجهتهم المفضلة للإقامة والعمل، وذلك بسبب العروض السخية لشركة «فورد» لصناعة السيارات في عشرينيات القرن الماضي، فضلاً عن وجود أعداد لا بأس بها من المهاجرين العرب، الذين يرتبطون معهم بعلاقات تاريخية وثقافية وطيدة، خاصة وأن جميع المهاجرين الكلدان كانوا يتحدثون العربية، باللهجة العراقية.
وكما هو الحال بالنسبة للجاليات العربية الأخرى، فقد كان النصف الثاني من القرن الماضي شاهداً على النجاحات الاقتصادية التي حققها الكلدان في منطقة ديترويت، كما ساهموا معاً في إبقاء «عاصمة صناعة السيارات في العالم» على قيد الحياة، بعد نزوح السكان البيض وأصحاب الأعمال التجارية، في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها المدينة عام 1967.
ترافقت نجاحات الكلدان التجارية والاقتصادية مع إنجازات ثقافية واجتماعية لافتة، تمثلت بشكل أساسي في دخول معترك الحياة السياسية والخدمة العامة، وكذلك في إنشاء العديد من المنظمات والنوادي التي كان لها أكبر الأثر في الحفاظ على الهوية والتراث الكلداني، وفي مقدمتها «نادي شيناندواه» بمدينة وست بلومفيلد، الذي أطلق –مع بداية الألفية الثانية– مبادرة طموحة لتأسيس مركز ثقافي ومتحف يوثق تاريخ الكلدان في موطنهم الأم وفي وطنهم الجديد.
ونجح «نادي شيناندواه» في تحقيق الحلم المرتجى عام 2005 بافتتاح «المركز الثقافي الكلداني»، في حين تأخر افتتاح «المتحف الكلداني» حتى عام 2017، بسبب أزمة الركود الاقتصادي التي ضربت الولايات المتحدة، وكانت منطقة ديترويت في مقدمة المتضررين منها.
ووفقاً للمديرة التنفيذية للمتحف، وئام نعمو، فإن الحفاظ على تاريخ الجالية الكلدانية وتراثها التي يمتد إلى 5000 عام، لم يكن «أكثر إلحاحاً ووضوحاً، مما هو عليه الحال الآن، بالنظر إلى أن منطقة ديترويت تضم أكبر تجمع كلداني في العالم».
وتصف نعمو، المتحف بـ«جوهرة تاج المركز الثقافي الكلداني»، مشيرة في حديث مع «صدى الوطن» إلى أن بلاد ما بين النهرين، كانت موطناً لأول حضارة إنسانية، وأن ذلك يعود في جزء كبير منه إلى أن سكان المنطقة «وثقوا كل شيء». وتضيف بأن الجالية الكلدانية في منطقة ديترويت تواصل ذلك التقليد، بعد مرور آلاف السنين.
من جانبه، وصف الكاتب والمؤرخ جايكوب بقال منطقة ديترويت بأنها «أصبحت العاصمة الجديدة للكلدان في العالم»، وأضاف في كتابه المعنون بـ«100 سؤال وجواب حول الكلدان الأميركيين»، الذي نشرته «جامعة ميشيغن ستايت» قائلاً: «إن الكلدان بدأوا الهجرة إلى المنطقة في أوائل القرن العشرين وأصبحوا جزءاً من قائمة طويلة تضم أكثر من 50 مجموعة عرقية، ساعدت على تشكيل ديترويت بالصورة التي تبدو عليها اليوم».
وأردف بقال: «إن الجالية الكلدانية الصغيرة انجذبت إلى عرض الـ5 دولارات في اليوم، الذي قدمته شركة «فورد» لعمالهما، وبدأوا –مع مرور الزمن– بشراء متاجر البقالة وتشغيل أفراد عائلاتهم، لساعات عمل طويلة»، لافتاً إلى أن الكلدان ساهموا في الإبقاء على مدينة ديترويت على قيد الحياة، عبر تشغيل 90 بالمئة من متاجر الأطعمة، بعد أحداث 1967.
روح المبادرة والتصميم لدى الكلدان يمكن رصدها بوضوح في «المتحف الكلداني»، من خلال المعارض المتعددة التي تضم تحفاً أصلية ومشغولات فنية تحاكي العناصر التاريخية التي يعود عمرها إلى آلاف السنين، إضافة إلى «بروفايلات» تعرّف بقصص النجاح المحلية، لقادة ورجال أعمال محليين ساهموا في إبراز الدور الإيجابي للكلدان الأميركيين.
والمتحف الذي بلغت كلفته أكثر من مليوني دولار أميركي، يمثل جسراً يربط بين العصور القديمة في بلاد ما بين النهرين، وبين وطن الكلدان الجديد، فمع أن الكثيرين منهم لم يهاجروا إلى الولايات المتحدة إلا فراراً من آثار الاضطرابات والنزاعات السياسية في الموطن الأم، إلا أنهم احتضنوا الثقافة الأميركية بطرق فريدة لا حصر لها.
كان معظمهم مرتاحين للهجرة إلى مترو ديترويت، بسبب العدد الكبير من السكان الناطقين بالعربية الذين سبقوهم إلى المنطقة. وفي هذا الصدد، يقول بقال: «نحن جميعاً من الشرق الأوسط»، مضيفاً لـ«صدى الوطن»: “لقد جئنا بشكل أساسي من العراق، الموطن الأساسي لجميع الكلدانيين. وفي ميشيغن، نشعر بأننا مرتبطون بالمنطقة بأكملها، سواء كان ذلك هنا (في المتحف الكلداني)، أو حتى في المتحف العربي الأميركي بديربورن. لدينا أرضية وثقافة مشتركة نتقاسهما (مع العرب)».
ويفضل الكلدان، التعريف عن أنفسهم كمجموعة إثنية ودينية تعود جذورها إلى آلاف السنين، بدل التعريف عن أنفسهم كعراقيين، على قاعدة أن العراق تشكل كدولة في عشرينيات القرن الماضي، وأن وجودهم سابق لتشكيل العراق الحديث.
ورغم مرارة هجرانهم لمدنهم وقراهم الأصلية، إلا أن مترو ديترويت كانت بمثابة «أرض الميعاد»، بالنسبة لمعظم الكلدان الذين تمكنوا من الحفاظ على هويتهم والاحتفاء بها، وإعادة اكتشافها وتعريفها.
وفي هذا السياق، تقول نعمو: «كان علينا أن نأتي إلى هنا، لكي نكتشف من نحن حقاً، وما هو تاريخنا»، لافتة إلى أن العديد من المدارس تقوم بجولات في المتحف لكي تتعلم حول التاريخ المنسي للجالية الكلدانية. وتضيف: «إنهم حقاً يقدرون ويفهمون قيمة هذه الجالية، خاصة في ميشيغن».
المتحف الذي يمتد على مساحة 2,500 قدم مربع، يشكل مصدر فخر للكلدان المحليين، بحسب ماري رومايا، التي أكدت على رغبة عائلات الجالية في أن يعرف أطفالهم وأحفادهم أنهم كلدان، و«أكثر من ذلك أن يحبوا ويحتضنوا تراثهم».
رومايا، وهي عضو في اللجنة التي أشرفت على تأسيس المتحف، أضافت: «لا يعني هذا أننا لسنا أميركيين، ولكن.. لدينا هوية تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام».
ويتكون المتحف الكلداني من خمسة معارض، هي «بلاد ما بين النهرين القديمة»، «الإيمان والكنيسة»، «الحياة في القرية الكلدانية»، «الرحلة إلى أميركا» و«الكلدان اليوم». وتغطي المعارض الخمسة مواضيع تتراوح من الحياة اليومية للكلدان الأميركيين، إلى حياة الفلاحين في العصور القديمة، والمحطات البارزة في الحضارة الكدانية، مثل الشريعة الحمورابية في مدينة بابل، حيث يعرض المتحف نسخاً مطابقة للرُقُم الأصلية لـ«شريعة حمورابي»، وهي مجموعة تتألف من 282 قانوناً تعود إلى العام 1754 قبل الميلاد، وتوجد النسخة الأصلية منها في متحف اللوفر بباريس.
وكان خبراء فنيون من جميع أنحاء العالم قد تمت استشارتهم والتعاون معهم لجعل المتحف تمثيلاً حقيقياً لآلاف السنين من الحياة الكلدانية، كان بينهم موظفون في «معهد ديترويت للفنون» بديترويت، و«المتحف العربي الأميركي» بديربورن، و«متحف الهولوكست» بمدينة فارمنغتون هيلز، و«متحف سيمثسونيان» بالعاصمة واشنطن.
تجدر الإشارة إلى أن الكلدان يدينون بالمسيحية الكاثوليكية، ويتحدثون اللغة الأرامية، لغة السيد المسيح عليه السلام. وكانوا، في مراحل تاريخية عديدة، عرضة لمجازر جماعية أدت إلى تناقص أعدادهم بشكل كبير، بدءاً من مذابح تيمورلنك في القرن الرابع عشر، ومذابح بدر خان بداية القرن التاسع عشر، وصولاً إلى العمليات الحربية التي شنتها الدولة العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى، والتي أسفرت عن مقتل مئات الآلاف والتهجير الجماعي للكلدان من مناطق سكناهم الأصلية.
وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، دفع الانفلات الأمني الكثيرين منهم للنزوح إلى دول الجوار، وكذلك للهجرة إلى أوروبا وأميركا.
يفتح المتحف أبوابه للزائرين، من يوم الاثنين وحتى يوم الجمعة، بين الساعتين، العاشرة صباحاً والثالثة بعد الظهر، مع ضرورة الحجز المسبق للزيارات.
ويبلغ سعر بطاقة الزيارة للأطفال بين 5–12 سنة 7 دولارات، وللبالغين 10 دولارات، وللعائلات 20 دولاراً، أما بالنسبة للوفود المدرسية فسعر التذكرة 5 دولارات لكل طالب.
للحجز أو لمزيد من المعلومات، يمكن الاتصال على الرقم: 248.681.5050
أو عبر البريد الإلكتروني:
info@ChaldeanCulturalcenter.org
Leave a Reply