فاطمة الزين هاشم
«سأظل أستدعي تفاؤلي، إنني على يقين من أن العمر لن يمتد بي حتى أشارك في فرحة الشعب المكافح، فالدرب طويل والوصول سوف يستغرق جيلين أو ثلاثة»، هذا ما كتبته الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، إحدى أهم شاعرات فلسطين في القرن العشرين، حيث مثل شعرها أساساً قوياً للتجارب الأدبية الأنثوية في الحب والثورة، في زمن كان فيه الحب من المحرمات.
كانت تتمنى أن يعود وطنها السليب قبل موتها، لكن القدر كان أسرع من أن يتيح لها هذه الفرصة التي منت نفسها بها طيلة حياتها.
ولدت فدوى طوقان في مدينة نابلس الفلسطينية، ولم يسعفها الحظ بتكملة دراستها، حيث أوقفت عن الدراسة وهي في المرحلة الابتدائية لأن عائلتها كانت تعتبر مشاركة المرأة في الحياة العامة أمراً غير مرغوب به، لكنها ثقفت نفسها بنفسها حيث وقف أخوها الشاعر إبراهيم طوقان إلى جانبها فشجعها على كتابة الشعر ونشره في العديد من الصحف العربية آنذاك.
لم تكن بعد شهرتها محظوظة حتى في الحب، إذ التقت بشاعر مصري اسمه ابراهيم النجا الذي قدم إلى فلسطين كصحفي أثناء حرب 1948، فنشأت بينهما علاقة حب لرقة ذلك الشاعر الذي أحس بمعاناتها، قررت الزواج منه، لكن العائلة جابهتها بالرفض بذريعة المحافظة على التقاليد والعادات التي لا تسمح بالزواج من شخص غريب عن العائلة.
توالت النكبات في حياة الشاعرة بعد ذلك حيث توفي والدها كما توفي معلمها وأخوها الشاعر إبراهيم طوقان، وأعقب ذلك احتلال فلسطين إبان نكبة 1948، فتركت تلك المآسي المتلاحقة أثراً نفسياً مؤلماً في نفسها كما تبين من شعرها في ديوانها الأول «وحدي مع الأيام».
لكن الحب عاد وأشعل فؤادها مرة ثانية حينما ذهبت إلى لندن حيث تماشت مع الحضارة الأوروبية، وانفتحت لها الآفاق وأخذت تندمج في المجتمع اللندني الذي أتاح لها فرصة التعرف إلى الاعلامي المخضرم سامي حداد، إذ نشأت بينهما علاقة حب وطيدة سنة 1975، بعد وثوقها من هذه العلاقة، وأحكم الحب وثاقه بينهما، فلم تتورع عن البوح والاعتراف بما كانت تشعر به إزاء الحبيب الجديد، ذلك الحب الوليد والضروري لمثل سنها وحظها العاثر.
وسرعان ما توهجت مشاعرها وأغنتها بالشعر والرسائل والتسجيلات الاذاعية عبر إذاعة «بي بي سي» التي كان يعمل فيها الحبيب آنذاك، ومن فرط حبه لها، استحدث فقرة في الإذاعة أسماها «خاطرة الصباح»، قدمت خلالها الشاعرة بعض أشعارها لمدة شهر واحد، ولم يفترقا خلال وجودهما في لندن، حيث كان يصطحبها إلى العروض المسرحية والفنية.
استبد بالشاعرة الإعجاب بسامي كشاعر، حيث كانت الرسائل المتبادلة بينهما بعد عودتها إلى فلسطين، ترياقاً وجسراً من العواطف الجياشة إذ كثيرا ما كانت روحها تسكن إلى دفء مشاعره المتوقدة تجاهها، كانت الشاعرة تجد في راديو «بي بي سي» الذي ينقل لها صوت الحبيب ترياقاً آخر، حتى إذا طال غيابه عن صباحاتها يستبد بها التساؤل والحيرة، فمن يضمن للأيام المظلمة أن تتوهج بالضوء والحرارة؟
كانت فدوى صادقة في حبها الذي نعتته بأنه توقيت الديمومة الذي يجمع بين ثناياه جمال الأنثى ورؤيتها الحساسة، كما كانت الرسائل هي الوسيلة التي تجمع بين الحبيبن رغم طول المدة التي يستغرقها الوصول، عدا عن مضايقات موظفي البريد وفضولهم مما كان يضطرها للذهاب إلى القدس لإيداعها البريد كي تختصر زمن وصولها إلى يد الحبيب الذي كان بدوره ينتظر أخبارها على أحرّ من الجمر.
غبر أن القدر كان بالمرصاد لهذا الحب البريء، إذ انقطع سامي عن الردود بدون سبب محدد، حيث صدمت الشاعرة بذلك الموقف المفاجىء، وأخذتها دوامة من الأفكار علّها تجد له عذراً، إذ ربما كان ذلك الانقطاع ناتجا عن ظروف خارجة عن إرادته، لذلك بقيت محافظة على صداقة لطيفة بينهما بعد أن كتبت له: «لست أدري الآن كيف سأواجه حياتي اليومية بعد رحيلك، ولكني أعرف أنه لا مفر لي من ترويض النفس على تحمل العيش في الصحراء المقفرة التي ستلتهم أيامي المقبلة».
بعد ذلك تاهت فدوى طوقان في ظلمات الاحتلال، خصوصاً في قطع جسور التواصل مع العالم الخارجي، حتى توفيت دون زواج يوم الثاني عشر من كانون الاول (ديسمبر) 2003 مودعة الدنيا عن عمر ناهز السادسة والثمانين، قضته مناضلة بكلماتها وأشعارها في سبيل استقلال وحرية فلسطين.
وقد كتب على شاهدة قبرها:
كفاني أموت عليها وأدفن فيها وتحت ثراها أذوب وأفنى
لم يتنكر الإعلامي سامي حداد للحب الذي جمعه مع الشاعرة فدوى طوقان، بل كان وفياً حيث وثّق هذه الرسائل في كتاب أسماه «فدوى طوقان.. رسائل حب إلى سامي حداد» تخليداً لذكراها في الوجدان واعتزازاً بمكانتها في الأدب العربي.
الكتاب الذي يقع في 154 صفحة من القطع المتوسط صدر عن «دار أزمنة» في عمان (كانون الثاني 2020)، ويحتوي «رسائل حبّ» تبادلتها طوقان مع الشاعر والإعلامي الأردني الفلسطيني سامي حداد، ويعود تاريخها إلى أواسط سبعينيّات القرن الماضي.
في الكتاب، دروس في التعبير الأدبي عن الحب، ولذلك أنصح جيل السوشيال ميديا اليوم، بقراءته لإعادة اكتشاف جمال الكلمة العربية بدلاً من الاتكال حصراً على رموز «الإيموجي» للتعبير.
Leave a Reply