مريم شهاب
في حفلٍ كبير، أقامه أحد رجال المصارف الأثرياء في قصره الواسع، دار نقاش بينه وبين كبار القوم الحاضرين من الأغنياء ووجهاء المجتمع عن أيهما أفضل، الإعدام أو السجن المؤبّد؟ وذلك على خلفية قضية شغلت الرأي العام عندما بكى محكوم عليه بالإعدام مطالباً بسجنه لمدى الحياة.
اتفق الجميع على أن الإعدام أفضل لأنه موت وينتهي، ولكن السجن المؤبد هو موت ومرارة كل يوم. جذب النقاش انتباه المحامي الشاب، فتوقف عن عزفه على البيانو وقال للمصرفي: أنا ضد الإعدام ويجب وقف عقوبة الإعدام. الإعدام هو أخذ روح لا نملكها، بينما السجن المؤبد يبقى فيه الأمل، مع شروق شمس كل يوم.
اعترض البزنسمان الفاحش الثراء، ورد على المحامي بفظاظة وغطرسة: أنا لم أختبر السجن ولا الإعدام، لكن أنت شاب، لو تعرضت للتجربة فماذا ستختار؟
أجابه المحامي: أختار السجن طبعاً!
وبكل خبث قال رجل المال: أراهنك على 2 مليون روبل إذا استطعت البقاء في سجن انفرادي لمدة خمس سنوات. وكان جواب الشاب صادماً، لا بل أقضي خمسة عشر عاماً لأثبت لك أن السجن أفضل من الإعدام، ولأبرهن لك أن الإعدام حياة انتهت بينما السجن هو عمر مستمر.
احتدم الجدال بينهما على مسمع الجميع.
– أنا أتكلم معك بجدية، لماذا تريد أن تضيع حياتك مقابل المال؟
أجاب ليس مقابل المال بل لأثبت لك أن السجن أرحم من الإعدام.
في النهاية قررا عقد رهان بينهما، يبدأ الرهان غداً في يوم من سنة 1870 وينتهي في نفس اليوم من سنة 1885. ارتضى المحامي ذو العشرين سنة أن يسجنه الرجل الغني في قبوٍ ملحق في قصره، في عُزلة تامة عن الناس، وعما يحدث في العالم… انقطاع تام عن الدنيا لمدة 15 سنة. وفي حال أخلّ بالعقد وخرج من السجن حتى ولو قبل دقائق من انتهاء المدة، فسوف يخسر الرهان و2 مليون روبل.
في المقابل طلب المحامي من سجانه تأمين طلبات من الكتب والمراجع وآلات الموسيقى وتزويده بما يشتهي من الطعام والشراب وكان له ما أراد.
مضت السنوات الأولى. فنون من الموسيقى تعزف في القبو. كان يأكل وينام ويشرب ولكن الأيام بدأت تتثاقل وتمر بمرارة وقساوة.
خلال خمس سنوات تعلم خمس لغات، وقرأ كتباً عديدة في الفلسفة والتاريخ والأدب وطلب من الحارس أن لا يحضر له مشروبات روحية، ودرس الإنجيل وعلوم الأديان، كل الأديان.
وسط هذه السنين، افتقر حال الرجل الثري بعد ما أضاع ثروته بالقمار والتهور في المضاربات بالبورصة، ولم يبق في خزينته إلّا 2 مليون روبل.
كان لا بدّ أن يموت السجين قبل آخر ليلة من السجن حتى لا يكسب الرهان.
حمل الشمعة ودخل عليه، وإذا به أمام هيكل عظمي طويل الشعر والأظافر، فسأله كيف ستصرف 2 مليون روبل غداً بعد الإفراج عنك؟ لم يسمع جواباً بل وجد رسالة يقول له فيها: غداً عند الحادية عشرة سأترك هذا السجن وأستعيد حريتي. سأترك لك الجدران التي انطبعت عليها ملامحي، سأرى نافذة غير تلك التي آنستني في وحدتي. دعني أيها السجّان أخبرك بضمير صادق ويشهد الله على صدقه: إنني أحتقر الرخاء والترف الموجود في الدنيا، لقد منحتني كتبك الحكمة والقدرة لأصنع نفسي. أما أنت فقد بقيت كما أنت. لقد فقدت صوابك واتخذت الطريق المنحرف وآثرت القبح على الجمال. إني أتعجب كيف استطعت أن تستبدل الجنة الخالدة بالدنيا الزائلة؟ إني أحتقر دنياك ولأثبت لك احتقاري لها، سوف أغادر قبل انتهاء المدة من دون ذلك الرهان اللعين، ومتنازلاً لك عن المليوني روبل، فأموالك لم تعد مأربي! وأخيراً أقول لك إن الإعدام أفضل كثيراً من السجن.
حين انتهى العجوز من قراءة هذه الكلمات قبَّل رأس الشاب السجين وترك الباب مفتوحاً.
هذا مختصر قصّة «الرهان»، وهي رائعة من روائع أنطون تشيخوف، رائد القصّة القصيرة في العالم.
Leave a Reply