كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في الوقت الذي كان اللبنانيون، يلتزمون منازلهم اتقاءً لعدوى فيروس كورونا كما في معظم بلدان المعمورة، فاجأهم قرار صدر عن المحكمة العسكرية برئاسة العميد الركن حسين عبدالله، بإسقاط التّهم الموجّهة إلى العميل عامر الفاخوري المعروف بـ«جزار معتقل الخيام» إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، لمرور الزمن العشري عليها، بعد أن تقدّم وكيله المحامي فرنسوا الياس بدفوع شكلية أخذت بها المحكمة بالإجماع، وهو ما شكّل مفاجأة للبنانيين، لاسيما المقاومين والأسرى المحررين وأحزاب وتيارات تنتمي إلى «محور المقاومة».
اعتقال الفاخوري
في الصيف الماضي عاد الفاخوري إلى لبنان، ورغم سحب الأمن العام جواز سفره في المطار إلا أنه دخل البلاد برفقة أحد الضباط ليعاد توقيفه بعد انكشاف أمره، ووصول معلومات حول وجوده في لبنان إلى الأسرى المحررين من سجن الخيام الذي كان تحت إمرته وارتكب فيه جرائم لا تعد ولا تحصى
وتكشفت فضيحة دخول الفاخوري الآمن إلى الأراضي اللبنانية، بعد أن قامت جهات سياسية وحزبية، بتنظيف سجلّه العدلي، بقرار قضائي صدر عن محكمة النبطية، مهّد لعودته وتقديم تطمينات له، حيث حامت الشبهات حول دور لـ«التيار الوطني الحر»،، وهو صاحب دعوة إلى إصدار عفو عام عن العملاء الذين تعاونوا مع العدو الإسرائيلي أثناء الاحتلال للبنان وجنوبه والبقاع الغربي وراشيا، وقد تقدّمت كتلته النيابية باقتراح قانون منذ سنوات بهذا الخصوص، بذريعة أن التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي فُرض على أبناء المناطق الجنوبية.
وكان قد ورد بند في ورقة التفاهم بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» لإيجاد حلّ للمتعاملين مع العدو الإسرائيلي، واستعادتهم، علماً أن المقاومة وبعد تحرير الجنوب في نهاية أيار 2000، لم تقم بالانتقام من العملاء أو عائلاتهم لمن بقي منهم في البلدات والقرى، إذ فرّ مع خروج الاحتلال الإسرائيلي، نحو ستة آلاف مواطن، ومَن عاد منهم إلى لبنان، جرت محاكمته إذا كان متورّطاً.
أي دور
لم تكن عودة الفاخوري بريئة، فقد تزامن وصوله إلى لبنان، مع بدء «الحراك الشعبي» الذي أيّدته واشنطن تأييداً كاملاً، كإشارة إلى وجود أطراف فيه مرتبطة بها، بالرغم من أن بداياته كانت عفوية، وبمطالب محقة تتعلق بمحاربة الفساد ووقف الهدر واسترداد المال المنهوب واستقلالية القضاء… إلخ. إذ لم تكن «أجندة» الغالبية من المنتفضين تتوافق مع الإغراءات الأميركية التي رفضتها قوى وطنية ويسارية وأخرى من المجتمع المدني، غير المرتبط بجمعيات خارجية، تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وتطالب بالديمقراطية والحريات.
وفي هذا الإطار، طُرح سؤال عن توقيت عودة الفاخوري مع بدء «الحراك» والدور الذي كان سيؤدّيه، بعد صدور تقارير تتحدّث عن تنظيم أميركي لما سمي «ربيع عربي» في عدد من الدول، والذي أدّى إلى فوضى وقتال وحروب، وهو ما كان مطلوباً أميركياً في لبنان، على أن توجه الشعارات باتّجاه «حزب الله» الذي أدرك أن بعض مَن في الحراك يتلقى أوامر خارجية، فانسحب منه، بعد أن كان أول مَن دعا إليه، رفضاً لفرض رسوم وضرائب جديدة.
الوظيفة
بحسب المراقبين، جاء توقيف الفاخوري، ليحبط ما كان مخططاً أن ينفّذ أميركياً في لبنان، وهو الذي ارتبط إسمه بجهاز المخابرات الأميركية، وفق تقارير أمنية ودبلوماسية أميركية، كشفت عن أن الفاخوري هو مدير محطة الاستخبارات المركزية الأميركية في بيروت، وقد تحوّل من عميل إسرائيلي إلى آخر أميركي، منذ أن قصد الولايات المتحدة في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وهو لم يقصد لبنان للسياحة أو زيارة عائلته أو أقاربه، بل حضر في مهمة من ضمن الجهاز الذي يعمل به، وهذا ما يفسّر الاهتمام الأميركي بالإفراج عنه.
فخصوصية الفاخوري استدعت حضور موفدين دبلوماسيين وأمنيين وحقوقيين إلى بيروت، ناقلين طلباً واحداً ووحيداً إلى المسؤولين اللبنانيين، بالإطلاق الفوري للفاخوري، الذي يحمل الجنسية الأميركية، لكن لبنان لم يستجب للمطالب الأميركية تحت ضغط الشارع الذي طالب بمحاكمة فورية لهذا العميل على جرائمه.
وتقدّم الأسرى المحررون من السجون الإسرائيلية، لاسيما معتقل الخيام الذي أداره الفاخوري، وارتكب فيه جرائمه، وأخفى أسرى، مازال أهاليهم يطالبون بهم، ومن بينهم علي حمزة الذي شهد الأسرى على تعذيبه من قبل الفاخوري وأعوانه في السجن، إلى غيره من المساجين، وقد تقدّم الأسرى بدعاوى شخصية ضد هذا العميل، إلا أن الإدارة الأميركية منعت محاكمته بعد صدور قرار اتهامي بحقه من قاضية التحقيق في المحكمة العسكرية نجاة أبو شقرا، على أنه مريض سرطان، فتمّ وضعه في إحدى المستشفيات لتلقي العلاج.
الضغط الأميركي
لم توفّر الإدارة الأميركية، منذ اعتقال الفاخوري، أي ضغط لإطلاق سراحه، فتحدّث عنه وزير الخارجية مايك بومبيو، وأرسل ديفيد هيل إلى بيروت، لإبلاغ المسؤولين اللبنانيين ضرورة إخلاء سبيله، كما أن السفيرة الأميركية السابقة والتي انتهت مهامها منذ شهر، إليزابيت ريتشارد، لم تكن تزور رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومسؤولين أخرين، إلا للمطالبة بإطلاق سراح الفاخوري.
كذلك، لم تتوقف الاتصالات الأميركية مع قائد الجيش العماد جوزف عون، لإطلاقه، وتمّ ربط المساعدات للجيش به، وكذلك حصل مع وزير الخارجية جبران باسيل بتهديده بوضع اسمه على لائحة العقوبات للمتعاونين مع «حزب الله» وشخصيات أخرى في «التيار الوطني الحر» أو مقربين منه، إذا لم يفرج عن الفاخوري، الذي نسج علاقات جيدة مع السفارة اللبنانية في واشنطن حيث كانت توجّه له الدعوات للمناسبات التي تقيمها السفارة، ومنها حفل استقبال تكريماً لقائد الجيش أثناء زيارته أميركا، وظهر في صورة مع العميل الفاخوري، ليتمّ ربط زيارة الأخير للبنان، بهذه العلاقة التي نفاها العماد جوزف عون، وتوجّهت الأنظار إلى السفير غابي عيسى المحسوب على «التيار الوطني الحر»، الذي حضر إلى لبنان في شباط الماضي، ناقلاً طلباً أميركياً، بالإفراج عن الفاخوري، وأن الإدارة الأميركية ستصعّد العقوبات والحصار المالي على لبنان، إذا لم يتجاوب مع هذا الطلب.
الانصياع
ومع تصاعد الضغوط الأميركية، قرّرت المحكمة العسكرية برئاسة العميد عبدالله، وهو ابن بلدة الخيام، إسقاط الاتهامات عن «جزار الخيام»، وهو لا ينفي بأنه انصاع للضغوط السياسية عليه، ولم يكن من مفر أمامه، إلا القبول بالدفوع الشكلية، والقبول بمرور الزمن وهو عشر سنوات على الجرائم المرتكبة والمتّهم فيها الفاخوري بعد أن أبلغه أعضاء هيئة المحكمة بالموافقة.
وقد طرح مراقبون تساؤلات عن دور «للثنائي الشيعي» («أمل» و«حزب الله»)، فيما جرى في المحكمة العسكرية التي خضعت لضغوط سياسية، وهو ما أورده «حزب الله» في بيانه ضد قرار المحكمة وكذلك رفضت حركة «أمل» القرار الذي ميّزه المدعي العام غسان عويدات، لإعادة المحاكمة، وهو إجراء قضائي عادي، ينفّس الاحتقان الذي ظهر في تحرّك الأسرى المحررين والمتضررين من القرار، كما للسجناء الذين يطالبون بالعفو العام، وقاموا بالتمرّد داخل السجون، وإحراق بعض الغرف.
قرار المحكمة العسكرية، يعيد التأكيد على أن القضاء في لبنان ليس مستقلاً، ويخضع للضغوط السياسية، وهي أتت هذه المرة من الإدارة الأميركية، التي تكاد تتخذ لبنان رهينة، وتفرض عليه إملاءاتها وعقوباتها، فتصدّر القرار تلو القرار، ضد لبنان، أحزاباً أو رجال أعمال أو مصارف، وتحاصره مالياً واقتصادياً إذا ما خرج على سياستها في المنطقة، وآخر فصول هذا التدخل كان إسقاط التهم عن الفاخوري، الذي تردد أنه خرج من السجن إلى السفارة الأميركية قبل أن يجري نقله بمروحية أميركية إلى قبرص في خرق صريح للسيادة اللبنانية، وفي وقت حكم فيه المجلس العدلي على حبيب الشرتوني بالإعدام، لأنه قتل بشير الجميّل الذي تعاون مع العدو الإسرائيلي.
فهل أصبح لبنان تحت الوصاية الأميركية؟
Leave a Reply