محمد العزير
«كوفيد–19» ليس الفيروس الأول الذي يجتاح العالم ويعبر الحدود ويصيب مئات الآلاف ويقتل عشرات الآلاف. لكنه الوباء الأول الذي تتابعه البشرية على طريقة البث المباشر في ظل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي والقدرة على معرفة ما يجري في أية بقعة مهما كانت نائية.
خرج الفيروس الذي باغت الناس عشية العام الجديد، فور شيوعه انطلاقاً من الصين، من خانة الطب والعلم ليصبح قضية رأي عام، يدلي كل من بيده هاتف أو أمامه شاشة بدلوه فيه، فيما يشبه كرنفالاً عالمياً تتراوح فعالياته بين نظريات المؤامرة (التي اكتسبت زخماً لم تشهده منذ الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول 2001)، وبين العنف العائلي الذي مارسه الرجال على أزواجهم وعائلاتهم، وكأن الفيروس رخصة للتوحش، وما بينهما من أفعال غير مألوفة أطلقها الوباء من عقالها.
في أميركا قد تكفي متابعة مواقف وتصريحات ومناكفات الرئيس دونالد ترامب لتلخيص الموقف، من قوله في البداية أن الفيروس سينتهي كالسحر، لأنه «رئيس عظيم»، إلى دعوة صهره جارد كوشنر (حامل كل الملفات الأساسية في الإدارة الحالية، والفاشل في كل مهمة أوكلت اليه)، ليكون منسق الجهود الهادفة إلى مكافحة الوباء، وصولاً إلى منافسة حكومات الولايات على المواد والمعدات الحيوية للفحص والعلاج والطلب إلى حكامها أن يمتدحوه ليتجاوب مع طلباتهم، فيما يعين مسؤولاً فدرالياً لتأمين الكمامات والفحوصات والمستلزمات لـ«جيش الدفاع الإسرائيلي»، لأنه «ليس منسق توزيع للولايات» على حد تعبيره.
لكن الخروج عن المألوف لم يتوقف على ترامب أو توأمه في لندن، رئيس الحكومة بوريس جونسون الذي ظل يستهتر بالوباء حتى أصابه شخصياً ووضع بلاده على لائحة الدول المحتمل أن تكون أكثر تضرراً من الوباء، أو رئيس البرازيل جير بولسونارو، الذي استمر في إنكار الفيروس حتى أصيب معاونوه المقربون به، أو رئيس الفيليبين رودريغو دوتيرتي، الذي أفاق متأخراً على ضرورة الحجر المنزلي لمنع انتقال العدوى، فأمر بإطلاق النار على كل شخص يتواجد في الشارع.
تجاوز التطير، السياسة، وكان طبيعياً أن يتلقف الدين، الوباء، ورجال الدين الذين بنوا أمجادهم على الغيبيات وعلى القدرة الإلهية في شفاء الأمراض البشرية بلا دواء ولا علاج.
لم يقتصر التصدي الإلهي للفيروس على ديانة دون أخرى. ففي فلسطين المحتلة أصر المتدينون اليهود على أن الله هو الشافي إلى درجة تجاهلوا معها كل إجراءات الوقاية ما أدى إلى إصابة حوالي نصف عدد سكان مدينة «بنائي براك» غرب تل أبيب، والبالغ عددهم حوالي 200 ألف نسمة بالفيروس، مما دفع الحكومة إلى فرض عزلة تامة عليها. وفي أميركا حيث ينتعش اليمين الديني في ظل ترامب، أصر حكام العديد من الولايات وأكبرها فلوريدا على عدم تطبيق التباعد الاجتماعي من منطلقات «الله الشافي» قبل أن تغلبها أرقام المصابين وتتراجع، وتأمر باعتقال القس المشهور رودني هاورد الذي أصر على إقامة القداديس المكتظة كل أحد وأربعاء، ثم أقدمت ولاية لويزيانا على إجراء مشابه في حق القس طوني سبيل. كذلك أقام شباب يمينيون «حفلات كورونا» في ولايتي كنتاكي وتكساس مما أدى إلى إصابة العشرات بالفيروس. في المقابل، شاعت بين المتدينين البروتستانت مجدداً نظرية أن «كوفيد 19» هو عقاب من الله على المثلية الجنسية في أميركا، (المقولة ذاتها أيام انتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة، الأيدز).
بطبيعة الحال كان الصوت الديني الأعلى في مواجهة الوباء، إسلامياً، حيث لا ثقة شعبية بحكومات أو مؤسسات أو إحصائيات. لم يقتصر الرد الإسلامي بجميع مذاهبه على الثقة بالقدرة الإلهية فقط، بل تعداها إلى دمج نظرية المؤامرة فيها مع شماتة لافتة.
ففي بداية انتشار الوباء ظهر أكثر من معمم معروف ليبتسم ويقول بانفعال… انظروا إلى الصين الدولة الملحدة التي تضطهد المسلمين اليوغور وتمنع الحجاب، انظروا إلى الغرب الكافر الذي يسخر من النقاب… ها هو الفيروس يقرهم في بيوتهم ويفرض عليهم النقاب نساءً ورجالاً مع ضحكة شماتة لا يجيدها إلاّ رجال الدين من أمثاله.
لكن بعد شيوع الوباء تغيرت الفتاوى، وأطل علينا، فيمن أطل، المعمم سيف الدين مرخوف الذي يطلق على نفسه لقب «العالم العلامة» لينبهنا إلى أن في اسم الفيروس مؤامرة ضد الإسلام… «فكلمة كورونا مشتقة من كلمة قرآن» بينما سبق القرآن الفيروس بـ1440 سنة وأطلق عليه التسمية الشرعية «الناقور» في سورة «المدثر».
ونسج على منوال «العالم العلامة» كثيرون، منهم من أصر على لعق أقفاص المقامات الدينية بلسانه، ومنهم من أصر على إقامة صلاة الجماعة مع إصرار على المصافحة والتقبيل، ومنهم من لجأ إلى شعوذات معروفة بالتداوي بالأعشاب والأحراز والماء المصلى.
ومن نوادر الوباء أن لبنان كاد أن يقع في حرب دينية (كالعادة) لأن امرأة رأت في منامها القديس شربل (أحد شفعاء الطائفة المارونية والكاثوليكية في لبنان) الذي طلب منها أن تأخذ «كمشة» تراب من مقامه وتذيبها في الماء وترسلها إلى المستشفى الحكومي المركزي في لبنان (مستشفى رفيق الحريري الجامعي) لعلاج المرضى المصابين بالفيروس. اجتمع الإكليروس اللبناني خلف المرأة ومنامها وأصر على إرسال الماء المترّب من مقام مار شربل إلى المستشفى الجامعي مع همروجة إعلامية من البث المباشر… ولم يجرؤ أي طبيب على نقض رواية المرأة المؤمنة.
الوجه البشع لخروج الناس عن طورها إزاء الفيروس تمثل في العنف غير المبرر عبر العالم. عنف لفظي وجسدي ومعنوي طال ذوي الأصول الآسيوية. ففي أميركا طعن رجل في ولاية تكساس عائلة آسيوية بينها طفل وطفلة لم يتجاوزا الخامسة من العمر، وقال للشرطة عند اعتقاله إن طعنهم للحد من انتشار الوباء. وقالت منظمات حقوقية إن الاعتداءات العنصرية على ذوي الأصل الآسيوي تضاعفت مرتين على الأقل. كما شهدت دول عربية عديدة اعتداءات جسدية على آسيويين دون تمييز بين صيني وياباني وماليزي، بينما اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بالتنمر على الشعب الصيني كافة وما يأكله، مستخدمة فيديوهات وصوراً قديمة لأكل الخفافيش والفئران والسحليات، معظمها ليست من الصين.
وكالعادة تبقى المرأة المتلقي الأكبر والهدف المفضل للعنف الذكوري. فعلى وقع البوستات التي تشيطن المرأة في ظل «سجن» الرجل في بيته، وفي ظل الجهل المتمادي لأهمية الكلمة وتأثيرها من قبل من يفترض أنهم من النخب التي تنجر بسهولة إلى النكات السهلة والصور النمطية، ارتفع عدد حالات العنف العائلي عبر العالم، وكأن المرأة مسؤولة عن الوباء، أو كأن الأسرة إقامة جبرية لرجال ليس فيهم من الصفة إلّا أعضاؤهم التناسلية.
Leave a Reply