وليد مرمر
فيما يدخل العالم شهره السادس في مواجهة «مستر كوفيد» وبحصيلة من الضحايا تجاوزت ربع مليون نسمة، لا تزال أكثر الأسئلة المتعلقة بالوباء بغير إجابة. فمثلاً تتضارب آراء العلماء حول مدة بقاء الفيروس «حياً» على الأسطح المختلفة. بل حتى استعمال كلمة «حي» ليس دقيقاً تماماً، ذلك أن الفيروس ليس كالبكتيريا التي تعتبر خلية حية لديها جسم ونواة وتتكاثر بالانقسام. فالفيروس هو عبارة عن DNA وRNA محاطين ببروتين ودهون للحماية، ووفقاً للعلم الحديث ونظرية التطور فإن نشوء الفيروسات لا يزال مجهولاً. وهو بالتالي لا يعتبر من «الأحياء» رغم ذهاب بعض العلماء إلى اعتباره حياً بسبب حمله للمواد الجينية الآنفة. بالحد الأدنى يعتبر الفيروس «كائناً على حافة الحياة» on the edge of life. والفيروس يهاجم حتى البكتيريا نفسها، وهو ليس لديه القدرة على التكاثر من تلقاء نفسه بل تتحول الخلية المضيفة التي يغزوها إلى «مصنع» لإنتاج فيروسات مشابهة!
ما يميز «مستر كوفيد» عن آلاف الفيروسات المعروفة للعلماء هي قدرته البالغة على العدوى (كل شخص ينقل العدوى إلى تسعة أشخاص تقريباً). لذلك، وبغياب علاجات سريرية أو مضادات أو لقاحات وجد العالم نفسه عاجزاً عن مواجهة أصغر مخلوقات الله.
والأمر الأكثر إثارة للحيرة فيما خص «مستر كوفيد»، هو الانتقائية الواضحة لديه، وسأبرز على عجالة عدد سكان بعض الدول ذوات النسب السكانية المرتفعة مع عدد الوفيات بالوباء:
باكستان 210 مليون 360 وفاة، الهند 1.36 مليار 1,100 وفاة، اندونيسيا 268 مليون 790 وفاة، اليابان 127 مليون 425 وفاة، روسيا 145 مليون 110 وفاة، نيجيريا 196 مليون 51 وفاة، الصين 1.4 مليار 4,600 وفاة، المكسيك 126 مليون 1,700 وفاة، الفيليبين 107 مليون 570 وفاة، بنغلادش 161 مليون 168 وفاة، ومصر 98 مليون 392 وفاة. (النتيجة: 4.2 مليار توفي منهم عشرة آلاف فقط)!
بالمحصلة يمكن القول إن أكثر من نصف سكان العالم أي 4.2 مليار لديهم نسبة وفيات أقل من نصف الوفيات في بلد واحد، كبريطانيا (26 ألف وفاة).
إنه أمر محير وليس له تفسير علمي. فمعظم تلك البلدان تعتبر من دول العالم الثالث حيث توجد العشوائيات السكانية التى تأوي الملايين وحيث التباعد الاجتماعي مستحيل فضلاً عن استحالة المحافظة على النظافة والتطهير في بلدان تغيب فيها حتى المرافق الصحية الأساسية (500 مليون في الهند ليس لديهم دور للخلاء)!
ورغم أن الوباء قد بدأ انتشاره من الصين إلا أن الصين قد تمكنت من احتوائه بشكل أذهل المراقبين وأثار ريبتهم في آن. فقد لجأت بكين –على سبيل المثال– إلى تركيب ماسحات لقياس الحرارة على خوذات عناصر الشرطة لرصد المصابين إضافة إلى إقامة «الحواجز الطيارة» لقياس حرارة المارة، عدا عن تركيب كاميرات تقوم بقياس حرارة المسافرين عبر القطارات. وأيضاً كانت الحكومات المحلية على اتصال دائم بجميع المرضى وقامت برصد تحركاتهم عبر الهواتف الذكية، حتى بات بإمكان أي من السكان أن يعرف، عبر استعمال برنامج شبيه ببرنامج خرائط غوغل، كل الأشخاص المصابين في دائرة سكنه، ثم بإمكانه أن يعرف خريطة تنقلهم قبل الإصابة.
وفيما تعمد معظم دول العالم استراتيجية الحظر المنزلي كسياسة وحيدة لمواجهة الوباء ما زالت دول كالسويد تعتمد سياسة الحصانة الجماعية والثقة بوعي المواطنين لتظهر نتائج غير مخيبة البتة (2,500 وفاة من أصل 10 ملايين مواطن).
ولأن العادة هي طبيعة ثانية، أو لأن الطبيعة هي عادة أولى كما ادعى بعض الفلاسفة، فقد أدى التغيير الطارئ في العادات عبر الحظر المنزلي والتباعد الإجتماعي إلى ارتفاع في منسوب الاكتئاب لدى الكثير من الناس، وإلى ارتفاع نسبة العنف المنزلي والجريمة والانتحار. وكان لافتاً على سبيل المثال في بريطانيا الارتفاع الملحوظ في الوفيات بمختلف أنواع الأمراض غير المتعلقة بوباء كورونا وهو أمر أثار اهتمام المراقبين.
اختلفت الآراء حول منشأ الفيروس وتم تراشق الاتهامات بين الدول حول المسؤولية عن تفشي الفيروس. وبينما كان الرأي الشائع أن الفيروس قد تم انتقاله إلى الإنسان عبر طيور الخفافيش المصابة، ذهب الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى حد «التأكيد» على أن الفيروس صنع في مختبر ووهان للفيروسات، لكن من غير المعلوم بعد، ما إذا كان الفيروس قد انتشر بالخطأ أم بطريقة متعمدة!
لدى الفيروس انتقائية أيضاً فيما خص الأعمار. فرغم أن الأطفال هم أقل مناعة من البالغين إلا أن إصابتهم كانت أقل بشكل ملفت. وبعكس الإنفلونزا الإسبانية الذي فتكت بعشرات الملايين، فلدى «مستر كوفيد» انجذاب واضح نحو البالغين والشيوخ. ومعلوم أن فيروس الحمى الإسبانية بدأ انتشاره في ثكنة عسكرية في ولاية كنساس ثم انتقل (أو نقل) إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى وتركز «هجومه» على الفئات العمرية بين 20 و40 سنة، أي العمر المتوسط للجنود (مصادفة؟ ربما!).
لقد قامت الحكومات في شتى البلاد برصد ميزانيات ضخمة لمواجهة كوفيد ولدعم المواطنين الذين تعطلت أعمالهم. وهذه التريليونات التي لا تملكها الحكومات تم استدانتها من المصارف الخاصة كالاحتياطي الفدرالي في أميركا وغيره من البنوك المركزية التي تملك معظم أسهمها عائلات معدودة كروثتشيلد وروكفيلر ومورغان… وبذلك يكون المستفيد الوحيد من كورونا هي هذه الطبقة الأوليغاركية التي تحكم العالم عبر إخضاعه للديون وفوائدها غير المتناهية.
هذا كان ملخص النصف الفارغ من الكأس. أما النصف الملآن فيتلخص في الفرصة التي أعطاها تعطل عجلة العمل وانخفاض النشاط البشري للطبيعة. فانخفضت كميات ثاني أوكسيد الكربون المنبعثة من العوادم والمصانع بنسبة كبيرة فأصبحت السماء أكثر زرقة نهاراً وأكثر صفاء ليلاً بسبب قلة التلوث البيئي والضوئي. وكثرت رؤية الطيور المتنوعة وأصبح سماع زقزقتها مألوفاً وظهرت أعداد أكبر من النحل في الأرياف وأصبحت الأنهار والبحيرات والبحار أقل تلوثاً.
ولكن السؤل الذي ما فتئ يدور في أذهان كل الناس، هو: «ماذا بعد؟».
ريما يكون «مستر كوفيد» هو فرصة البشر الأخيرة للإنابة والرجوع إلى الحق. أو ربما يكون بلاء أصاب الظالمين، والبلاء إذا نزل، عساه يكون من «العذاب الأدنى» الذي ينزله الله بغية إرجاع عباده إلى الصراط المستقيم: «ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون». لكن الأكيد أنه وبغياب أية بوادر لظهور علاج أو لقاح في المدى القريب يبقى الأمل الوحيد هو أن تتدخل العناية الإلهية حتى يرحل «مستر كوفيد»، كما جاء: من المجهول وإلى المجهول.
Leave a Reply