محمد العزير
مفهوم ومبرر أن تطغى مسحة التشاؤم على الناس في ظل اجتياح وباء «كوفيد –19» للعالم كافة دون تمييز بين متقدم ونامٍ، أو بين آسيوي وأوروبي أو إفريقي وأميركي، مصيباً الملايين ومردياً مئات آلاف الضحايا.
في حالات الخوف وعدم اليقين، من الطبيعي أن تطغى لدى البشر العواطف السلبية وتقل ثقتهم بالمستقبل، فكيف تكون الحال إذا بدت أكثر الدول تقدماً في العلم والصناعة والطب والتقنيات عاجزة عن مجابهة فيروس لم يعرف حتى الآن مصدره أو تكوينه الجيني، ولم يجد أحد له علاجاً أو وقاية أو لقاحاً، فيما تقتصر الإرشادات على إبعاد الناس عن بعضهم البعض، وكأنها تضيف إلى الخوف من المرض، مرارة الحرمان من الدعم العائلي والاجتماعي.
يبدو العالم اليوم وكأنه مشهد من فيلم رعب لا يعرف أحد مُخرجه ولا كيف ستكون نهايته. من هو البطل؟ من هو الضحية؟ ومن هو الشرير (عدا عن الفيروس نفسه)؟
ويزيد من هول المشهد أنه يحصل على طريقة البث المباشر. فقد أتاحت التقنيات الحديثة، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت الملاذ الوحيد في ظل التباعد الاجتماعي، معرفة أرقام الإصابات والوفيات ومناطقها لحظة بلحظة، باستثناء الدول التي تحظر الإنترنت أو تتعامل مع الأرقام كوجهة نظر، لا كمعطيات إحصائية، وجلها الديكتاتوريات شبه المفلسة ومن يدور في فلكها، من باب الخوف من الشماتة، أو الدول التي تدفن ضحايا الفيروس ضمن من تدفنهم تحت أنقاض البيوت المهدومة على رؤوس البائسين من مواطنيها.
لكن في قلب هذا اليأس لا مكان إلّا للأمل، ليس من باب التمني والأوهام، وإنما من بوابة التاريخ الواسعة التي فيها حياة أكثر من الموت، ومستقبل أوسع من العدمية، ومستقبل أكثر من الماضي. صحيح أن محترفي الأيديولوجيات بنسخها الفكرية والدينية والعنصرية وجدوا في الوباء مزيداً من الذخيرة للتأكيد على صوابية مواقفهم… اليسار المحترف يرى فيه، ذروة أزمة الرأسمالية التي لا تزال تتوحش منذ أيام كارل ماركس وحتى اليوم (رغم قيام وانهيار التجربة الشيوعية الفظة)، والدين لا يزال ينتظر المخلِّص من أيام يعقوب وأولاده حتى اليوم (رغم ظهور المسيح… ومهدي، أسس الدولة الفاطمية، ثم جهيمان العتيبة عام 1979). وأصحاب نظرية تفوق العرق الأبيض بالضربة القاضية (رغم استعمار أوروبا البيضاء لكل العالم، وبلوغ الذروة مع آرية هتلر النازية).
بالطبع، لا ننسى كذلك، المستجدين على ساحة النجومية الإعلامية بعد عمر طويل، والذين أن صعبت الإحاطة بهم جميعاً، يبرز منهم رجل الأعمال الفلسطيني–اللبناني–الأردني–الكندي طلال أبو غزالة الذي يصر على حتمية حدوث حرب كونية ثالثة، مع أن اختصاصه لا يمت إلى التنجيم والاستراتيجيات العسكرية بصلة ويقتصر على الاستثمارات والتدقيق المالي، لكن الشاشة تغري.
في الوقائع: «كوفيد – 19» ليس أول وباء يجتاح العالم على جناح الفيروس. سبقته أوبئة كثيرة أشد فتكاً لا تزال أسماؤها حاضرة في الاذهان وإن كانت نتائجها مختلفة. جنون البقر، إنفلونزا الطيور (افيان)، إنفلونزا الخنازير، سارز، والأوسع انتشاراً فيروس نقص المناعة المكتسبة (أيدز) الذي اودى بحياة نحو 6 ملايين إنسان قبل أن تتم السيطرة عليه حتى أصبح أشبه بالزكام أو أقل بقليل. أوجه الشبه بين كل هذه الأوبئة وبين الوباء المستجد كثيرة، من حيث إثارة الخوف، والتأثير على معنويات الناس، والتسبب بتغيير بعض السلوكيات، لكن الأقرب إليه من حيث الأثر النفسي والمعنوي هو (الايدز) كونه يمس العلاقة بين البشر.
لذا يصبح السؤال المنطقي؛ لماذا لا ينضم الفيروس الجديد إلى أقرانه؟ الجواب على ذلك ذو شقين: الأول، أن السؤال سابق لأوانه، والثاني أن العلم لن يعجز عن حسم التحدي هذه المرة ككل مرة.
في الحقائق أيضاً، أن الوباء الذي مر على البشر قبل مئة سنة تقريباً وحمل اسم الإنفلونزا الإسبانية عقب الحرب العالمية الأولى، واستمر من 1918 إلى 1923، أباد مباشرة ما لا يقل عن 50 مليون إنسان، وتسبب في موت عدد مماثل في عالم خارج للتو من حرب عالمية أودت بحياة حوالي 16 مليون إنسان معظمهم من الرجال في عمر الخدمة العسكرية، ولم يمنع القوى العظمى في حينه من حماقة خوض حرب عالمية ثانية أودت بحياة أكثر من 65 مليون إنسان.
بين تلك الوقائع الثلاث، وعلى أثر كل منها شهد العالم أحداثاً موازية، فبعد الحرب الأولى، قامت عصبة الأمم أول مؤسسة أممية للتواصل بين دول العالم ذات السيادة الوطنية، وهي الفكرة الأميركية التي لم تحظ بموافقة تشريعية في الولايات المتحدة، بسبب وجود –آنذاك– سياسيين مثل دونالد ترامب، وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الجمهوري، ميتش ماكونيل. وبعد وباء الإنفلونزا ظهر أعظم علاج في تاريخ البشرية «البنسيلين». وبعد الحرب الكونية الثانية، نشأت الأمم المتحدة، التي لا تزال أهم ملتقى عالمي لحل النزاعات، على الرغم من الشوائب العديدة التي تعتري عمل المنظمة الدولية، لكنها تبقى –دون جدال– أفضل من قانون الغاب في العلاقات الدولية، حتى أن الدول المنتصرة (الحلفاء) لم تمارس على الدول المهزومة (المحور) سياسات ثأرية وعقابية كما كان يحدث في الحروب السابقة، فكان مشروع مارشال لإخراج أوروبا من تحت الأنقاض وإعادة إعمارها، بداية عهد جديد من التعاون الدولي لم تنغصه سوى إرهاصات الحرب الباردة التي وضعت معظم المنتصرين في مواجهة مع الاتحاد السوفياتي السابق.
في التوقعات، لن يعجز العلم عن إيجاد دواء ولقاح للفيروس الجديد المنتمي إلى سلالة الكورونا الشهيرة، وإن كان جل الاهتمام الآن ينصبّ على التصدي الميداني لأعراض الوباء وآثاره البشرية والاقتصادية، من قبل كل دولة على حدة، خاصة في غياب الدور الريادي التاريخي للولايات المتحدة في حالات كهذه.
إيجاد الدواء واللقاح لن يتأخر كثيراً. وسيتمكن المختصون مع الانخفاض التدريجي للإصابات من التحكم بالفيروس والوقاية منه مستقبلاً. لكن ذلك لن يكون النتيجة الوحيدة للمواجهة المفتوحة مع «العدو الخفي»، فالعالم سيخرج من هذا الكابوس بمتغيرات ليست من النوع الكارثي الذي يبشر به محترفو العقائد ويجاريهم فيه بعض الباحثين عن موطئ قدم في عالم التحليل والنجومية… يتبع.
Leave a Reply