هل هي بوادر صراع سعودي–تركي على الشارع السنّي في لبنان
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
انفجر الخلاف الصامت بين ورثة «الحريرية السياسية»، نجلَي الرئيس الشهيد رفيق الحريري البكر بهاء وشقيقه الأوسط سعد، الذي آلت إليه الوراثة السياسية، التي كان ينتظرها بهاء بعد اغتيال والده في 14 شباط عام 2005، وفق أصول التوريث السياسي في لبنان، إلا أن الظروف السياسية والعائلية، أبعدت بهاء لصالح شقيقه سعد، وبأمر ملكي سعودي، نفّذه الأمير بندر بن سلطان، الذي انحاز إلى جانب سعد وقدّمه للإدارة الأميركية آنذاك.
بقرار سعودي، استبعد بهاء الذي كانت جماهير آل الحريري تهتف باسمه في «ساحة الشهداء»، فخاطبهم حينها بعبارته الشهيرة: «يا قوم»، قبل أن يختفي فجأة عن المسرح السياسي ويتجه إلى أعماله بعد تقاسم «الثروة المالية» التي تركها والده، والتي قدّرت بحوالي 18 مليار دولار، وقد جنى الشهيد غالبيتها أثناء توليه الحكم في لبنان، لاسيما من خلال شركة «سوليدير» وإعادة إعمار الوسط التجاري للعاصمة بيروت.
لماذا سعد؟
أما لماذا أختير سعد وريثاً سياسياً، فالقرار لم يكن عائلياً أو حتى سعودياً صرفاً، بل كان المشروع الأميركي للمنطقة (الشرق الأوسط الجديد) الذي سوقته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، مؤاتياً لمواصفات نجل الحريري الثاني، الذي كان قريباً من والده، وحضر معه لقاءات سياسية، وإن لم يعدّه قط، لوراثته.
لم يكن رفيق الحريري يقدّم نفسه على أنه يبني عائلة سياسية، وكان يؤكّد أن أولاده لن يعملوا مثله في السياسة التي أتى إليها من دوره كوسيط سعودي للمساهمة في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، فكانت المملكة ترسله موفداً من قبلها إلى بيروت ودمشق، كما شارك في مؤتمرات دولية مثل لوزان وجنيف في 1983 و1984، ثمّ في «الاتفاق الثلاثي» الذي وقّعه في سوريا، كل من رئيس حركة «أمل» نبيه برّي ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «القوات اللبنانية» السابق إيلي حبيقة عام 1986.
ورغم فشل هذا الاتفاق، نجح الحريري –في دوره كموفد سعودي– بأن يدفع النواب اللبنانيين إلى التوافق على وثيقة سياسية للإصلاح، سمّيت بـ«اتفاق الطائف».
الإرث العائلي
خلال 15 سنة من تولي زعامة «الحريرية السياسية» يجد سعد نفسه، اليوم، شبه معزول في العائلة، بعدما ابتعد أشقاؤه بهاء وفهد وعبدالعزيز وأيمن وهند، وارتحلوا إلى خارج لبنان ولم يعودوا إليه، منذ ما بعد الاغتيال، حتى لزيارة ضريح الحريري، أو في ذكراه السنوية، بمن فيهم زوجته نازك التي تسكن حالياً في باريس، وتكتفي بتوجيه رسائل في مناسبات دينية أو أخرى تتعلّق بذكرى زوجها.
قصر قريطم أُقفل، وعُرض للبيع، كما باع الأولاد أملاكهم، ولم تعد لهم استثمارات تذكر في لبنان، حتى في «بنك البحر المتوسط»، حتى بات سعد وحيداً في بيروت، ليكمل ما بدأه والده.
لكن سعد لم ينجح في تحمل المسؤولية، وفق توصيف مَن عملوا معه، إذ أنه لا يملك ديناميكية، ولا ثقافة سياسية، وترك أمر الإدارة السياسية لمستشارين، أبرزهم: باسم السبع، غطاس خوري، هاني حمود، عقاب صقر، نديم المنلا، إضافة إلى ابن عمته، نادر، الذي أقصاه سعد لاحقاً بعد اعتقاله في السعودية في 4 تشرين الثاني عام 2017، وهو الذي كان مهندس «التسوية الرئاسية» مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، إلى جانب ابن عمته الآخر، أحمد الذي يتولى منصب الأمين العام لتيار «المستقبل»، ووالدتهما النائب بهية الحريري، فيما ابتعد عن سعد كثيرون ممن كانوا مقربين من والده كالوزيرين السابقين بهيج طبارة والفضل الشلق.
الأداء السياسي
في أثناء توليه زعامة «الحريرية السياسية»، التي تحلّق حولها السُّنّة في لبنان، ثأراً لدم الشهيد الذي استمدّ قوته من خلال الدعم السوري–السعودي وعلاقاته الدولية لاسيما مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وجد سعد الحريري نفسه في موقع العداء مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، قبل أن يضطر للذهاب إلى دمشق للمصالحة في العام 2009، بناء على رغبة سعودية، ومثله فعل وليد جنبلاط، فانهارت «14 آذار» و«ثورة الأرز»، على أنقاض المشروع الأميركي الذي بدأ بجر ذيول الخيبة بعد فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، وتمكّن محور المقاومة، من صياغة معادلة جديدة، سواء إقليمياً أو داخلياً، بعد أحداث 7 أيار 2008.
كرت سبحة الهزائم السياسية حتى بعد اندلاع أحداث «الربيع العربي» التي كان يعول عليها سعد لتغيير التوازنات الإقليمية تمهيداً لعودته إلى الحكم بعد إقالة حكومته في 2011. لكن بعد خمس سنوات من «النفي الذاتي» وجد الحريري الابن ضرورة ملحة للعودة إلى لبنان ورئاسة الحكومة مجدداً لترميم وحماية إرث «الحريرية السياسية» فعاد عام 2016 وخاض انتخابات 2018 التي أسفرت عن توليه رئاسة الحكومة مرة أخرى، مقابل وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وفق التسوية الشهيرة.
الاعتقال في السعودية
هذه الممارسة من وريث «الحريرية السياسية» راحت تضعف سعد الذي بدأ يتسرّب من حوله شخصيات وقفت إلى جانبه، كاللواء أشرف ريفي وبعده نهاد المشنوق، بداعي رفض التنازلات التي قدّمها الحريري الابن لـ«حزب الله»، لاسيما وأن أدبيات تيار «المستقبل» دأبت على اتهام الحزب بالتورط باغتيال رفيق الحريري.
غير أن تعاطي سعد البراغماتي مع «حزب الله»، كقوة سياسية وشعبية أساسية لها حلفاء على امتداد لبنان، بربط النزاع والتحالف السياسي معه، انعكس وبالاً على الحريري الابن نظراً لموقع «حزب الله في المعادلات الإقليمية والدولية.
وهذا ما دفع السعودية، بعد وصول محمد بن سلمان لولاية العهد بقيادة والده الملك سلمان، إلى اتخاذ تدابير قاسية بحق سعد الحريري الذي اتهمه حكام الرياض الجدد بتسليم لبنان للنفوذ الإيراني.
العداء بين السعودية وإيران والحديث عن سيطرة طهران على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، أنزل هذه المرة، غضب الرياض على زعيم «بيت الوسط» بعد أن اعتبرت لبنان قد خرج من محورها، فاستدعت الحريري، وأجبرته على الاستقالة في البيان التلفزيوني الشهير، بعد أن رفع حلفاء له، ومن داخل بيته السياسي والعائلي، تقارير تتّهمه بالتفريط بحقوق الطائفة السّنّية وتحويل لبنان إلى «دولة حزب الله»، لاسيما بعد وصول عون لرئاسة الجمهورية، وسيطرة «التيار الوطني الحر» على أكثرية الحكومة حتى ولو ترأسها الحريري أو سواه في خطه السياسي.
تخلخل زعامة الحريري لم يقتصر على التمرد داخل قاعدته السياسية، بل أفرزت انتخابات 2018، نواباً سنّة من خارج فلك «تيار المستقبل»، مما أفسد الاحتكار السياسي للطائفة السنية لاسيما وأن بين هؤلاء النواب حلفاء لـ«حزب الله» وقد تمكنوا من الحصول على تمثيل في الحكومة التي انتهت باستقالة الحريري الثانية، بعد اندلاع الحراك الشعبي ضد الطبقة السياسية الفاسدة احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الخريف الماضي.
بهاء يتقدّم
مع التدهور السياسي لشقيقه سعد، وعدم رضى السعودية عليه بعد احتجازه المهين وخروجه بوساطة فرنسية قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون، اعتقد بهاء الحريري –حينها– بأن اللحظة السياسية باتت مناسبة ليتقدّم لزعامة «الحريرية السياسية»، لكنه قوبل بمعارضة من داخل العائلة التي كانت مشغولة بتحرير ابنها من معتقل محمد بن سلمان الذي سجن معه أفراداً من العائلة المالكة وكبار الموظفين «المتهمين بالفساد»، والذين استردّ منهم أموالاً ضخمة، ومنهم سعد الذي أفلس شركة «أوجيه» التي كانت من حصّته، ومعها مؤسسات الحريري الإعلامية والتربوية والصحية والاجتماعية، فأُقفلت كلها، وتوقّفت الرواتب والمساعدات، وهي الأساس الذي نشأت عليه زعامة والده التي قامت على المال السياسي والخدمات.
عندما توقّف كل ذلك، «تفرّق العشاق»، كما يقول المثل الشعبي، وخرجت تظاهرات في بيروت تطالب بإسقاط الطبقة السياسية، ورحيل حكومة الحريري، وتحميل «الحريرية السياسية» مسؤولية ما وصل إليه لبنان من دين بقيمة 100 مليار دولار وتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة الفقر، وزيادة البطالة، فرأى بهاء هذه المرة أن دعمه للحراك الشعبي قد يساعده باستعادة الإرث المنهوب، فدعم «منتديات» كان لها دور أساسي في هذا الحراك، لاسيما في طرابلس، والبقاع والمدينة الرياضية وبرجا والناعمة وصيدا، وكان الظن أن «تيار المستقبل» وراءها، ليظهر أن منشقين عنه، هم مَن يتحرّكون بتوجيهات بهاء الذي لم يبرز اسمه فيها، ولا اسم المحامي نبيل الحلبي، كناطق باسمه، إلا بعد أن أصدر بهاء الحريري، مؤخراً، بياناً أدان فيه كل المرحلة التي تسلّم فيها شقيقه سعد الوراثة والسلطة، واعتبره من المنظومة الفاسدة التي يجب إسقاطها، وقيام عقد اجتماعي جديد.
البيان كان أشبع بـ«البيان رقم واحد» لمعركة يشنها بهاء ضد سعد لاستعادة حقوقه في الزعامة، متهماً شقيقه بتدمير ما بناه والدهما، وأن أداءه لا يمتّ إلى «الحريرية السياسية» في مشروع بناء الدولة.
ومع ظهور بهاء في البيان السياسي، وتبين أنه كان من داعمي الحراك، يطرح السؤال الأهم، هل قرار بهاء شخصي، أم أنه منسّق مع السعودية التي أنجبت «الحريرية السياسية» كأداة لنفوذها في لبنان؟
الجواب يعرفه السفير السعودي في لبنان وليد البخاري الذي زار بيت الوسط، والتقى سعد –بعد انقطاع– طالباً منه فكّ الاشتباك العائلي الذي وصل إلى الشارع المحتقن بسبب الأزمة الاقتصادية حيث يرتفع يومياً عدد اللبنانيين الفقراء والعاطلين عن العمل.
في الواقع يبدو الشارع اللبناني جاهزاً للاستغلال من قبل السياسيين الراغبين بتجميع المؤيدين والأنصار، وبأقل التكاليف، بسبب ارتفاع سعر الدولار. وما فعله بهاء الذي دخل من باب تقديم المساعدات لمؤيدي ومحازبي «تيار المستقبل»، يندرج في هذا الإطار. وقد تمكّن مع وكلاء له في لبنان، من نيل تأييدهم، في وقت يعاني التيار من شح مالي وتوقف الرواتب، وعدم تمكّنه من توزيع مواد غذائية على المحتاجين حتى في ظل أزمة كورونا.
في هذه الظروف الصعبة، ظهر بهاء في لبنان كمشروع، دون أن يحضر كشخص، فهل يخطو خطوته التالية قريباً بالظهور إعلامياً للحديث عن أهدافه وتحرّكه، وفق مقربين منه؟
يعود السؤال الأساسي ليطرح نفسه، أين تقف السعودية من تحرك بهاء؟
السؤال يزداد تعقيداً عندما ننظر إلى الحلبي المتحدث الإعلامي باسمه، وهو من المؤيدين المعروفين «للثورة السورية»، وعلى تواصل مع قوى إسلامية مدعومة من تركيا، وله ارتباطات مع جمعيات خيرية تابعة للحكومة التركية، كما توسّط مع مجموعات مسلحة كـ«جبهة النصرة» الإرهابية في تحرير مخطوفين في أعزاز وصيدنايا، كما في عرسال.
ربما الأسئلة التي يجب أن تطرح هي: ما هو الدور التركي وراء طلب بهاء للزعامة؟ وهل نشهد صراعاً تركياً–سعودياً على السُنّة في لبنان، وهل بات لاسطنبول موطئ قدم وحلفاء من جماعات اسلامية تعتنق فكر الإخوان المسلمين في لبنان؟ أم أن بهاء لا يراهن سوى على الحراك الشعبي والقاعدة الشعبية للتيار الأزرق، لاسترداد الإرث السياسي الذي بدده شقيقه سعد؟
Leave a Reply