كمال ذبيان – «صدى الوطن»
برزت خلال الآونة الأخيرة في لبنان إشارات ومواقف توحي بالدعوة إلى «الفدرالية»، بحيث تحصل كل بقعة جغرافية ذات أكثرية طائفية معينة على مينائها ومطارها ومحطتها الكهربائية ومربعها النفطي (البلوك) الخاص، وهو ما أعاد السجال حول هوية لبنان وشكل نظامه السياسي، وهما السببان الجوهريان لأزماته المتعاقبة منذ التأسيس، ولم يتم حسمهما نهائياً حتى اليوم. وإذا كان اتفاق الطائف قد كرّس انتماء لبنان إلى محيطه العربي وغيّر في بنية النظام السياسي على حساب المسيحيين، لكنه عجز في الوقت نفسه عن إخراج لبنان من دوامة الطائفة السياسية التي نشأ عليها لبنان بعد الحرب العالمية الأولى.
الفدرالية
الرئيس نبيه برّي، قد حذّر في كلمة له بذكرى عيد المقاومة والتحرير في 25 أيار الماضي، من مخاطر عودة الكلام عن «الفدرالية»، التي سادت في أثناء الحرب الأهلية، ودعت إليها «الجبهة اللبنانية» التي ضمت «الأحزاب المسيحية» من «كتائب» و«وطنيين أحرار» وشخصيات مسيحية سياسية وروحية.
وأدّى ذلك إلى وقوع خلافات بين القوى المسيحية بخروج الرئيس سليمان فرنجية من الجبهة لرفضه تقسيم لبنان وهو مشروع صهيوني عرضه عليه مسؤولون أميركيون أثناء رئاسته للجمهورية، ومن بينهم وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر، ثمّ الموفد الأميركي دين براون.
كذلك رفض عميد «الكتلة الوطنية» ريمون إدّه، الأفكار التقسيمية الكتائبية والتحالف مع العدو الصهيوني، وانشق عن الفريق الانعزالي، ودفع كل من فرنجية وإدّه ثمناً باهظاً لموقفهما التوحيدي، فكانت مجزرة إهدن التي أودت بحياة طوني فرنجية (والد سليمان الحفيد) وعائلته، وعدد من مناصري آل فرنجية، كما أن إدّه تعرّض لمحاولة اغتيال ونجا منها، وغادر بعدها إلى فرنسا، بعد أن سيطر بشير الجميّل على ما كان يسمّى «منطقة شرقية» بغالبية مسيحية وأقام «كانتونه الطائفي» من جسر كفرشيما إلى المدفون، بعد أن صفّى كل مَن اعترض على تقسيم لبنان من المسيحيين، ولم يوفّر حلفاءه وارتكب مجازر بحقهم كالوطنيين الأحرار في الصفرا، فيما نجا دوري شمعون من القتل.
إلا أن مشروع «فدرلة لبنان» انتهى مع الاجتياح الإسرائيلي الذي انتهى بانسحاب سريع من بيروت والجبل واغتيال بشير الجميّل، الذي رفع –بعد الغزو– شعار 10,452 كلم2، ليبدو أنه رئيساً لكل لبنان بعد وصوله إلى سدة الرئاسة بحماية الدبابة الإسرائيلية، وقد حاول مَن خلفه، إحياء مشروعه التقسيمي ولم ينجح، حيث كانت ممارسات «قواته اللبنانية» والمجازر التي ارتكبت في الجبل وبيروت واختطاف المواطنين، قد أسقطت القناع عن الدعوات الانفصالية كما سقط المشروع الصهيوني بإقامة سلام مع الدولة العبرية، بيد المقاومة الوطنية.
فمَن يطرح «الفدرالية» من جديد ويلوّح بها، تحت حقوق الطوائف، أو إنماء المناطق، إنما يعيد لغة الحرب الأهلية، وهذا ما حذّر منه الرئيس برّي، لأن الإنماء مختلف عن الفدرالية، التي لم تسقط من تفكير رئيس حزب «الكتائب» سامي الجميّل الذي يدعو إلى قيام «لبناننا»، وهو «لبنان المسيحي»، وقد بدأ يجاريه به عدد من مسؤولي «التيار الوطني الحر»، وهذا ما دعا قوى سياسية، إلى أن تتوقّف عند هذا الطرح الذي تم تغليفه بإنشاء محطة كهربائية في منطقة «سلعاتا» قرب البترون، مقابل محطتين في دير عمار والزهراني، وهما منطقتان ذات كثافة إسلامية (سنّيّة وشيعية). وبالرغم من أن المنطقة المسيحية تضم محطة الذوق منذ الخمسينيات، إلا أن هناك إصراراً على إنشاء محطة جديدة، حيث يشكو سكان ساحل كسروان من التلوث الذي تسببه المحطة الحالية، فضلاً عن ارتفاع عدد مرضى السرطان في محيطها. والخلاف نفسه ينطبق على معامل الترابة في شكا أو سبلين، حتى بات جلياً للجميع حجم الورطة السياسية في تطييف المرافق الحيوية، مما يعكس أزمة عميقة في النظام.
فشل صيغة 1943
وفي ظل التوجّه نحو تطبيق الإنماء وبروز المطبات الطائفية العصية، خرج المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان في رسالة الفطر، ليكشف عن فشل الصيغة السياسية للنظام اللبناني، التي أنتجها اتفاق كل من رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح بمشيئة فرنسية–بريطانية، على قيام نظام يعتمد المحاصصة الطائفية، ولو بشكل مؤقت.
وقد ولّد هذا النظام للبنان أزمات وحروب وصراعات أهلية متلاحقة، وإن جرى تعديل توازناته في اتفاق الطائف.
هذا هو الواقع الذي شكا منه المفتي قبلان، تتحدّث عنه أحزاب وقوى سياسية عديدة باتت تقر بأن ميثاق 1943 لا يلبي طموحات اللبنانيين نحو قيام دولة المواطنة.
أما فرط الميثاق وفق «فدرالية» بشير الجميّل الذي نعى صيغة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وبدأ بطرح «الدولة المسيحية» المرتبطة بالغرب، متحالفاً مع إسرائيل تحت شعار «حلف الأقليات»، والتحالف «مع الشيطان» لحماية «الوجود المسيحي»، فهو يظهر مجدداً عبر ابنه نديم الذي لا يتوانى عن محاولة إحياء هذه الأفكار الهدامة.
اتفاق الطائف
غير أن كلام الشيخ قبلان، كان محل استغلال من قبل أطراف سياسية اتهمت «الثنائي الشيعي» («أمل» و«حزب الله»)، بأنهما يريدان إسقاط اتفاق الطائف واستبداله بآخر، من خلال الدعوة إلى «مؤتمر تأسيسي»، سبق ودعا إليه «حزب الله» بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006.
حتى أن فكرة المؤتمر التأسيسي جرى عرضها في مؤتمر «سان كلو»، الذي دعت إليه فرنسا وحضره ممثلو الكتل النيابية الأساسية في لبنان، لمناقشة الأزمة اللبنانية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وانسحاب القوات السورية في 26 نيسان من العام نفسه، حيث شهد لبنان حرباً أهلية باردة، أوقفها اتفاق الدوحة نهاية أيار 2008.
ورغم أن بذور التفجير الطائفي والمذهبي مازالت قائمة، إلا أن القرار الدولي–الإقليمي منع حصول حرب داخلية في لبنان، بالرغم من اشتعال الحرائق في سوريا والعديد من البلدان العربية الأخرى، لكن لهيبها لم يتمدّد إلى كل لبنان، وتوقّف عند السلسلة الشرقية لجباله في عرسال، بفضل تصدي الجيش والمقاومة للمجموعات الارهابية، ومنعها من التقدّم إلى القرى وصولاً إلى طردها بالكامل من المنطقة.
ورغم الأزمات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية، ما زال اتفاق الطائف يحظى بتأييد غالبية الأفرقاء اللبنانيين، الذين يطالبون بتطبيقه، وهذا ما أكد عليه الرئيس برّي، وكذلك الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، رداً على مزاعم بأن الشيعة في لبنان، يريدون تغيير النظام باعتماد «المثالثة» بدلاً من «المناصفة»، وهو ما نفاه «الثنائي الشيعي» الذي شدد على ضرورة تطوير النظام السياسي من داخله، لأن الوقت ليس مناسباً للتغيير الجذري، الذي تطالب به أحزاب عقائدية وسياسية تدعو إلى إسقاط النظام الطائفي، وموقف «أمل» و«حزب الله» يلتقي عليه كثيرون من المستفيدين من هذا النظام، الذي لم يعد صالحاً للعمل به، في ظل الطائفية السياسية، التي هي علّة النظام وقد وردت في المادة 95 من الدستور كحالة مؤقتة، ونص بند في اتفاق الطائف على تشكيل هيئة وطنية لإلغائها، لكن لم يعمل به قط، فضلاً عن بنود أخرى تدعو إلى قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، وإلغاء طائفية الوظيفة، وتحقيق الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية، وهي بنود لو جرى تطبيقها قبل نحو ثلاثة عقود أو خلالها، لكان لبنان أمام نظام سياسي مختلف عما هو عليه اليوم.
إن ما يقال عن فكرة قيام دولة مدنية، ليس في مكانه، لأن الدولة في لبنان مدنية بدستورها، لكن النظام السياسي فيه قائم على الطائفي منذ تشكيل دولة «لبنان الكبير» قبل نحو قرن، حيث كان الهدف الفرنسي من إنشائه، هو أن يكون موطئاً للمصالح الغربية في المنطقة، عبر منح البلد للطائفة المارونية بعد أن سارت البطريركية المارونية عام 1920، بمشروع الانسلاخ عن سوريا، بينما كانت الوحدة مطلباً قومياً ووطنياً في تلك المرحلة رفضاً للتقسيم الذي فرضته بريطانيا وفرنسا على المشرق العربي.
أي لبنان نريد؟
ما أعلنه المفتي قبلان، كان توصيفاً لواقع يعيشه لبنان منذ نشأته، حتى أن البطريرك الماروني بشارة الراعي نفسه، دعا إلى عقد اجتماعي جديد، كما أن النائب طلال إرسلان كرّر الدعوة مراراً إلى عقد مؤتمر تأسيسي، ومَن تحرّك في الشارع كان أيضاً يدعو لإسقاط النظام الطائفي، كذلك، لا ينفك كثيرون عن المناداة بدولة مدنية، لكن يبقى السؤال، هل التغيير يكون من داخل النظام أم من خارجه؟ وهل يمكن التغيير من دون الصراعات الداخلية التي تطل برأسها كلما طرحت أزمة النظام اللبناني؟ وهل أن اللبنانيين قادرون على التوصل إلى الصيغة الأفضل لوطنهم فيحفظون وحدته ويقدمون وطنيتهم على الانتماء الطائفي ولعبة الأمم لتأسيس دولة قائمة على الحقوق والواجبات والمساواة بين المواطنين مهما اختلفت انتماءاتهم؟
Leave a Reply