وليد مرمر
ها هي تسع سنوات عجاف قد انقضت من الحرب الكونية الفاشلة على سوريا؛ تسع سنوات لم تخلف سوى القتل والدمار والنهب والفوضى. خلال هذه الحرب أرسلت 111 دولة «إسلامييها» ليساهموا في «تحرير» الشام من حكامها السوريين! وكانت إسرائيل، وما زالت، تتدخل علناً وسراً لتقديم شتى أنواع الدعم العسكري واللوجستي والمخابراتي والإسعافي «للثوار». وأرسلت تركيا في الشمال كتائبها لتقديم الدعم والمساعدة لـ«النصرة» و«داعش» و«الجيش الحر» وتوابعهم، فيما عسكر الأميركيون شرقي الفرات لقطع طريق العراق والسيطرة على آبار النفط من أجل تمويل الانشقاقيين الأكراد.
كل هذا لم ينجح في إجبار الشعب السوري الأبي على الركوع والاستسلام. فكان لا بد من الاستعانة بالسفّاح الاقتصادي. فكان «قانون قيصر».
قبيل أيام من سريان مفعول القانون في 17 حزيران الحالي، تدنت قيمة العملة السورية إلى مستويات غير مسبوقة لامست سقف الأربعة آلاف ليرة للدولار الأميركي الواحد (خمسون ليرة مقابل الدولار قبل الحرب). وهو ما دفع الرئيس بشار الأسد إلى إعفاء رئيس الوزراء عماد خميس من منصبه بعد الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها حكومته بسبب تعاملها مع الأزمة الاقتصادية، وتم تعيين حسين عرنوس بديلاً له.
وقد أدى انهيار قيمة الليرة السورية إلى ارتفاع كبير في الأسعار وإغلاق المحال التجارية وإثارة احتجاجات غير مسبوقة، كان أبرزها في السويداء ذات الأغلبية الدرزية، حيث شارك المئات في تظاهرات للمطالبة بتحسين الظروف المعيشية، قبل أن تتسلل الأجندات المشبوهة، والتي تتقن خطف الثورات، لتحول مطالبهم إلى مطالب سياسية بحتة من قبيل إسقاط النظام وانسحاب «الميليشيات» التي تدعمها إيران وروسيا!
في خط متواز، رافقت هذا التصعيد الشعبي في سوريا مظاهرات مماثلة في لبنان تربط بين الأزمة الاقتصادية وسلاح المقاومة!
إذن، فقد أصبحت ماثلة للعيان، الأجندات الموازية في كلا البلدين بهدف خنق لبنان وسوريا اقتصادياً على غرار خنق إيران، وذلك بهدف تمرير المشاريع السياسية التي فشلت الحروب في فرضها بالقوة.
قانون قيصر المشؤوم، الذي يذكرنا بالحصار الاقتصادي على العراق في تسعينيات القرن الماضي والذي أودى بحياة مئات الآلاف، سيما من الأطفال، يستهدف بوضوح الحكومة السورية بكل أطيافها السياسية والعسكرية والمالية والاقتصادية، إضافة إلى الأفراد والتجار والاقتصاديين والمصرفيين ورجال الأعمال والشركات والمؤسسات. كما يستهدف القانون عدداً كبيراً من الصناعات، بما فيها تلك المتعلقة بالبنية التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة، وكل من يقدّم الدعم المالي أو التقني أو المعلوماتي للمساعدة بالإنتاج المحلي من الغاز والنفط ومشتقاتهما وغيرهما من الصناعات. باختصار، تشمل العقوبات كل من له علاقة بالدولة السورية، من قريب أو بعيد.
أي فيما كانت الشركات اللبنانية والعربية تستعد للمباشرة بإعادة الإعمار في سوريا بعدما نجحت دمشق في القضاء على الإرهاب في معظم أراضيها، جاء هذا القانون لكي يفرض عقوبات بلا هوادة على أي تعاملات مع الدولة السورية مما عطل –أو على أقل أجل– مرحلة إعادة الإعمار إلى أجل غير مسمى.
لا شك طبعاً، أن لبنان سيكون ثاني المتضررين من هذا القانون المجحف لما للبنان من علاقات تاريخية وتجارية واقتصادية متشابكة مع سوريا. ولم تخف مصادر في الإدارة الأميركية تهديدها المباشر للبنان بعدم محاولة الالتفاف على القانون بل أنها ذهبت إلى حد مطالبة لبنان بقطع كل أشكال التواصل والتعاون بما في ذلك، الاتفاقيات الملزمة بين البلدين، تحت تهديد العقوبات لكل من يخالف القانون، حيث ستطال شظايا «قيصر» جميع المؤسسات والمصارف والمستثمرين اللبنانيين العاملين في سوريا.
إن الهدف الواضح والذي لا لبس فيه لقانون قيصر هو عزل سوريا مثلما تم عزل إيران.
لقد خسرت المؤسسات والأفراد السوريون ما يقدر بحوالي 50 مليار دولار من الودائع في المصارف اللبنانية بعد الأزمة التي عصفت بلبنان عقب احتجاجات 17 تشرين الأول الماضي، وهذه الودائع تمثل تقريباً ربع الودائع التي «طارت» من المصارف اللبنانية. وتلك، لا شك، كانت ضربة شديدة القسوة أصابت الاقتصاد السوري بالصميم. ثم يأتي «قانون قيصر» الآن ليكمل مهمة خنق سوريا بعدما ظلت عصية على الكسر على مدى تسع سنوات من الحرب الكونية وعقود من الحصار الاقتصادي.
لقد فشل الإرهاب التكفيري في القضاء على سوريا فتمت الاستعانة بالإرهاب الاقتصادي كآخر ورقة لإجبار الدولة والشعب على التنكر لقضاياه ومواقفه الثابتة، والخروج من محور الممانعة والحلف مع إيران.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فسوريا ليست وحيدة، بل هي لديها حلفاء لا يأبهون للعقوبات الأميركية كروسيا والصين وإيران التي ترسل السفن المحملة بالمواد الغذائية ومختلف الصناعات إلى سوريا غير مكترثة بالكاوبوي الأميركي. وكلنا يذكر كيف أرسلت إيران سفنها المحملة بالنفط للحديقة الخلفية للولايات المتحدة، إلى فنزويلا، في خطوة وصفت بـ«عين الأسد–2»، وهي تربطها بسوريا علاقات تكاد تكون وجودية وبالتالي فلن تكون سوريا في الميدان وحيدة وهي تواجه السفاح الاقتصادي.
Leave a Reply