كمال ذبيان – «صدى الوطن»
الأيام الأولى لشهر حزيران في ذاكرة العرب واللبنانيين، هي الحرب الإسرائيلية على الأنظمة العربية في مصر والأردن وسوريا، والتي انتهت بهزيمة العرب في يوم 5 حزيران 1967، وهو اليوم نفسه الذي غزا فيه العدو الصهيوني لبنان عام 1982، وبعد هذين التاريخين وُلدت المقاومة الفلسطينية عقب فشل الجيوش العربية في الحفاظ على فلسطين بعد حربي 1948 و1967، فقرّر الفلسطينيون أن يحملوا البندقية بأنفسهم لاسترداد الأرض، ومثلهم فعل اللبنانيون بعد الاجتياح بصعود مقاومتهم للاحتلال الذي توغّل في أرضهم ووطأ عاصمتهم، قبل أن تدحره المقاومة الوطنية عن بيروت.
المقاومة
اليوم، هذه المقاومة الفلسطينية واللبنانية هي المستهدفة، سواء دولياً أو من قبل أنظمة عربية وأحزاب وتيارات ترفض العداء مع إسرائيل.
هذا ما حصل مع مصر برئاسة السادات الذي وقّع اتفاقية «كامب ديفيد»، ولحقت به الأردن باتفاق «وادي عربة» ومنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات باتفاق «أوسلو»، حتى استسهلت أنظمة عربية عديدة، التطبيع مع إسرائيل، ولم يتوان بعضها عن فتح سفارات وقنصليات وعلاقات اقتصادية إلخ…
في المقابل، لايزال المقاومون في فلسطين ولبنان يرفضون اتفاقيات الذل والعار، كما لم يقبل النظام السوري الذي فاوض العدو الإسرائيلي بالتنازل عن شبر واحد من أرض الجولان المحتل وصولاً إلى بحيرة طبريا، فتميزت دمشق عن بقية الأنظمة التي حضرت مؤتمر مدريد للسلام، والذي انعقد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفرّد أميركا بقيادة العالم، وقد بسطت نفوذها في المنطقة بعد غزو صدام حسين للكويت عام 1991 وفرض الحصار على العراق.
ومع استسلام معظم الأنظمة العربية تباعاً أمام إسرائيل، بقي لبنان المقاوم يواجه الاحتلال بما تيسر من قوة سواء لدى المقاومة الوطنية ثمّ الإسلامية، ابتداء من طرده من بيروت وصولاً إلى تحرير الجنوب قبل عشرين عاماً، مروراً بإسقاط اتفاق 7 أيار 1984 الذي كان يمهد لاتفاق سلام مع الكيان الصهيوني، لكن المشروع سقط باغتيال أحد رموزه، بشير الجميّل، فلم تتمكن إسرائيل من تكوين السلطة التي تريدها في لبنان، فانهزم مشروعها السياسي، ثمّ اندحرت عسكرياً، على يد «حزب الله» الذي رفع راية المقاومة التي أسستها قبله أحزاب وطنية وقومية كـ«القومي السوري الاجتماعي» و«الشيوعي» و«البعث» والناصريين، وهو ما يقر به الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
القرار 1559
المقاومة التي دحرت العدو الإسرائيلي في 25 أيار عام 2000، دون اتفاق أو قيد أو شرط، تحولت إلى النموذج الأوضح بأن السلاح هو الذي يحرّر الأرض لا القرارات الدولية والمعاهدات المشروطة، وهو ما نقل العدوى إلى فلسطين المحتلة التي استعادت الانتفاضة فيها ثمّ المقاومة المسلحة دورها، فكان تحرير غزة ومحيطها من الاحتلال الإسرائيلي عام 2004، وتفكيك نحو عشرين مستوطنة يهودية في فضاء غزة كي لا تبقى في مرمى صواريخ المقاومة الفلسطينية التي امتلكت منها ما يصل مداها إلى تل أبيب وكامل الكيان الصهيوني.
هذا الصعود لمشروع المقاومة في لبنان وفلسطين، ورفع شعار حرب الوجود مع الدولة العبرية والسعي إلى اقتلاعها، بدأ يقلق قادة العدو الذين باتوا يسمعون من السيد نصرالله، عن دخول المقاومة إلى الجليل، ووصول صواريخها إلى عمق الكيان الصهيوني، فكان لا بدّ من قرار دولي يمنع تعاظم قدرات «حزب الله»، فكان القرار 1559 الذي صدر في 2 أيلول 2004، وحمل بنوداً برفض تعديل المادة 49 من الدستور التي تسمح بالتمديد للرئيس إميل لحود الذي أمن غطاءً شرعياً للمقاومة منذ كان قائداً للجيش، وبنداً بانسحاب القوات السورية التي دعمت المقاومة بالسلاح، إضافة إلى بند بنزع سلاح الميليشيات. وقد اعتبر هذا القرار عند صدوره مشروع فتنة في لبنان، كما وصفه الرئيس عمر كرامي، وهو ما حصل فعلاً باغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي كان قد تبرأ أيضاً من القرار الذي تم ربطه بالجريمة تمهيداً لحرب إسرائيلية مدعومة أميركياً على لبنان صيف 2006، تحت عنوان واحد، وهو تدمير سلاح «حزب الله»، وتحديداً ترسانته الصاروخية. لكن إسرائيل ارتدت مهزومة، وبقي السلاح واستمرّت المقاومة التي نجحت بتشكيل رادع للعدو الإسرائيلي وخلقت معه توازن رعبٍ، كما ترسخت معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» في صد الجماعات الإرهابية ومنعها من اجتياز الحدود اللبنانية من سوريا، التي ذهب إليها «حزب الله» ليقاتل إلى جانب الجيش العربي السوري منذ العام 2013.
الفتنة من جديد
ما لم يتمكّن منه العدو الإسرائيلي وعملاؤه في الداخل اللبناني، بإحداث فتنة سنّيّة–شيعية باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهي كادت أن تقع بعدما انقسم اللبنانيون بين فريق حليف لسوريا والمقاومة (8 آذار)، وفريق يدعو لإسقاط النظام السوري ووضع قرار الحرب والسلم بيد الدولة في لبنان (14 اذار).
وقد حصلت اشتباكات في أكثر من منطقة على خلفية الانقسام السياسي، إلى أن حسمت المقاومة الكباش في 7 أيار 2008، رداً على قرار حكومة فؤاد السنيورة بنزع سلاح الاتصالات التابع للمقاومة وتفكيكه. فتراجع أصحاب مشروع نزع سلاح المقاومة وتطبيق القرار 1559، الذي عجزت إسرائيل عن تطبيقه بعدوان 2006.
لكن القرار الذي ظل حبراً على ورق، عاد ليطلّ على اللبنانيين من جديد، وهذه المرة من بعض القوى ذات التوجّه نفسه الذي كان قبل الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، والذي كان يطالب بعدم تسليح الجيش لأن «قوة لبنان في ضعفه» كما كان يقول مؤسس «حزب الكتائب» بيار الجميّل، فضلاً عن المطالبة بنشر قوات دولية لحماية لبنان كما كان يدعو ريمون إدّه، وغيرهما من المطالبين بالحياد في الصراع العربي–الإسرائيلي.
تلك المقولات عادت لتصدر عن قوى وجهات وشخصيات من قوى «14 آذار» ترغب في تفعيل هذه الشعارات لاستغلال الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الأول الماضي، والذي وضع عناوين لـ«ثورته» تتعلّق بمحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين وتحميل السلطة بكل رموزها وأحزابها مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي، الذي تسبّب بالبطالة والفقر والجوع، لتظهر على الساحة قوى اعتبرها مؤيدو المقاومة بأنها مشبوهة برفع شعار نزع سلاح المقاومة وربطه بالفساد وفقر اللبنانيين وسط حملات إعلامية تتهم «حزب الله» بتغطية بتهريب المازوت ومواد أخرى إلى سوريا، إضافة إلى تحميله مسؤولية شح الدولارات عبر اتهامه بتهريبها إلى سوريا والعراق وإيران، فضلاً عن الاتهامات التي ساقتها «ثورة الأرز» مثل اتهام الحزب بمنع قيام دولة.
هذا الخطاب التحريضي جاء بالتزامن مع الدعوة إلى تظاهرة ضد سلاح المقاومة في 6 حزيران، والتي جاءت متزامنة أيضاً مع تظاهرة أخرى دعت إليها مجموعات من «الحراك الشعبي»، التي رفضت شعار نزع سلاح المقاومة وتطبيق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701، وطالبت بالتركيز على المطالب الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية ومحاربة الفساد وهي عناوين الحراك الأساسية والثابتة منذ 17 تشرين الأول. الموقف استنفر مجموعات في الحراك من أنصار المقاومة وكادت أن تشتعل المواجهة في الشارع.
انكشاف الصورة
انكشفت الصورة بسرعة. إذ ظهر أن المطالبين بنزع سلاح المقاومة ليسوا فاعلين، ولم يتمكّنوا من جمع العشرات، وذلك بعد أن انسحبت قوى كـ«القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب» من معركة سلاح المقاومة، لأنها ليست أولوية في الوقت الراهن. كما خرجت مجموعات مؤيدة للمقاومة لمواجهة المطالبين بنزع سلاحها، لكن بعض الغوغاء تسلل إلى الصفوف، وأطلقوا شعارات مذهبية، كادت أن تشعل فتنة سنية–شيعية، نجحت في وأدها الاتصالات السياسية وحملات الاستنكار، وتحرّك الجيش والأجهزة الأمنية على الأرض.
هكذا لاحت صور الحرب الأهلية وذاكرة المحاور والمتاريس بين الشيّاح وعين الرمانة، كما فتح محور بين بربور والطريق الجديدة في كورنيش المزرعة في بيروت بعد أن كادت عبارات مشينة بحق زوجة الرسول الأكرم محمد، أن تؤدي إلى معركة مذهبية لولا أن تم تدارك الموقف من قبل القيادات السياسية والحزبية والدينية.
هي الفتنة تطلّ من جديد، من بين ألم الناس وجوعهم. وبينما تخشى أجهزة المخابرات سهولة إشعال الفتنة في ظل الوضع المعيشي والمالي الصعب، مع استمرار تدهور سعر صرف الليرة وارتفاع البطالة وإقفال المزيد من المؤسسات، يستمر اللبنانيون بفرض عزل ذاتي على اقتصادهم المختنق بإغلاق المطار، بسبب جائحة كورونا.
Leave a Reply