كمال ذبيان – «صدى الوطن»
ليس «قانون قيصر» الصادر عن مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين، هو الأول الذي تصدره الولايات المتحدة ضد سوريا، بل هو يأتي في سياق سلسلة عقوبات فُرضت عليها، منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، وطالت الرئيس بشار الأسد وعائلته، وأركاناً في السلطة من مدنيين وعسكريين، إضافة إلى مؤسسات سورية رسمية وخاصة، لكن ما يميز قانون العقوبات الجديد هو أنه يشمل كل مَن يتعاون مع سوريا تجارياً ومالياً وخدماتياً، كما يطال كل من يقدّم المساعدات لحكومة دمشق، أو يعمل معها، ويستهدف تحديداً روسيا وإيران والصين، وقبلهم لبنان.
بل يستهدف القانون أي فرد أو كيان يتعامل مع سوريا بغض النظر عن جنسيته، ويركز على ثلاثة قطاعات هي الجيش السوري وصناعة النفط والغاز المحلية وإعادة الإعمار في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، ويفرض عقوبات على أي شخص يقدم الدعم أو المساندة لها.
تجويع سوريا
أُطلق اسم «قيصر» على قانون العقوبات الأميركي، نسبة لمصور سابق في الشرطة العسكرية السورية انشق عن النظام عام 2013 حاملاً معه 55 ألف صورة تظهر انتهاكات حقوق الإنسان في السجون السورية.
واستند المشرعون الأميركيون إلى شهادة «قيصر» الذي لم يكشف عن هويته، لإصدار القانون، دون أن ينظروا إلى التعذيب الذي مارسه الأميركيون أنفسهم في سجن غوانتانامو في أميركا، أو سجن «أبو غريب» في العراق، وما تفعله إسرائيل في سجونها ضد الفلسطينيين، وغيرها من الوقائع التي لا تنظر إليها الإدارة الأميركية إذا كانت الأنظمة التي تمارس القمع والقتل من الدول الخاضعة لواشنطن. فالهدف من «قانون قيصر» هو تجويع الشعب السوري، الذي لا يزال يعاني من حرب فُرضت عليه، تحت عناوين الحرية والإصلاح ومكافحة الفساد وغيرها من المطالب المحقة التي استغلت لدفع مشاريع سياسية تهدف إلى إسقاط النظام السوري أو على الأقل تطويعه وإخراجه من محور المقاومة ضد إسرائيل، فضلاً عن فك الارتباط بإيران، والتخلي عن الاتفاقيات مع روسيا.
لكن بعد الفشل العسكري الذي مُنّي به المشروع الصهيوني، بفضل صمود الجيش العربي السوري ودعم حلفاء دمشق، يأتي «قانون قيصر» كمحاولة جديدة لتطويع النظام السوري، وهو مطلب أميركي يعود إلى عقود، وقد برز بوضوح بعد الاحتلال الأميركي للعراق، إذ حضر وزير الخارجية الأميركية كولن باول إلى دمشق عام 2003، وطلب من الرئيس بشار الأسد، أن يتخلّى عن المقاومة في لبنان وفلسطين، وأن لا تكون سوريا ممرّاً لإيران إلى لبنان، الذي كان سجّل من خلال مقاومته وجيشه وشعبه انتصاراً على العدو الإسرائيلي في أيار 2000، وفرض عليها الانسحاب من الجنوب دون قيد أو شرط، كما طالب باول –حينها– إغلاق مكاتب «حماس» وفصائل فلسطينية أخرى في سوريا، لكن الرئيس الأسد رفض لائحة المطالب الأميركية ما أزعج واشنطن التي سرعان ما لجأت إلى أساليب أخرى لفرض إرادتها على دمشق. فكان اتفاق الرئيس الأميركي جورج بوش الابن والرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي أسفر عن صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، والذي طالب بسحب القوات السورية من لبنان، ونزع سلاح الميليشيات (حزب الله)، وهو ما تسبّب بفتنة داخلية بدأت مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، لتستكمل بحرب إسرائيلية–أميركية على لبنان صيف 2006 تحت مظلة مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي بشر بـ«الفوضى الخلاقة»، المستمرة بحروب وصراعات مفتوحة لاسيما بعد اندلاع ما سُمي بـ«الربيع العربي».
تضييق الخناق
تخضع سوريا بالفعل لعقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقد حظرت التعامل مع كيانات الدولة السورية وكذلك مع مئات الشركات والأفراد، لكن «قانون قيصر» استثنائي بشموليته، وارتباطه بقانون الدفاع الوطني الأميركي، فضلاً عن توقيته، حيث تعاني سوريا من تبعات الحرب الكونية التي شنت عليها وسط تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية في البلاد.
إذ يشمل قانون قيصر جميع الداعمين للنظام السوري سواء كانوا أشخاصاً حقيقيين أو اعتباريين، وكذلك كل أشكال الدعم حتى لو كانت تحت مسمى إعادة الإعمار.
يستهدف «قانون قيصر» سوريا في نظامها المصرفي، وكل مَن يقدّم خدمة مالية مهمة إلى قطاعات محددة في سوريا، أو يساهم في إعادة إعمارها، حتى من الدول الصديقة لأميركا كالإمارات العربية المتحدة، التي أعادت العلاقات مع السلطات السورية.
كذلك، الصين وروسيا وإيران، هي من الدول الأساسية التي يطالها القانون، الذي سيزيد الضغط على سوريا، التي باتت تعاني من أزمة مالية خانقة مع ارتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي المفقود من الأسواق، بسبب الإقفال على تصدير البضائع السورية وحرمان الدولة السورية من مواردها الطبيعية، مثل النفط الذي تسيطر عليه القوات الأميركية في شرق البلاد، ويقدر بحوالي 3.5 مليار دولار سنوياً، إضافة إلى حقول القمح، في المناطق الشمالية والشرقية التي يسيطر عليها الأكراد بإدارة ذاتية، بدأت تتعامل مع إقليم كردستان في العراق، فضلاً عن لجوء سكان إدلب إلى اعتماد الليرة التركية، في محاولة لـ«تتريك» المنطقة، بعد «التكريد» الذي طال شرق الفرات، في ظل انكفاء السلطة المركزية، فيما بدأت مناطق سورية أخرى خاضعة لدمشق، تشهد تحركات شعبية رفضاً للغلاء وانعدام السلع الغذائية الأساسية، مثلما حصل في محافظتي السويداء ودرعا الجنوبيتين.
السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، قالت بوضوح أمام مجلس الأمن الدولي، إن واشنطن ستطبق العقوبات الجديدة «لمنع نظام الأسد من تحقيق نصر عسكري». وقالت «هدفنا هو حرمان نظام الأسد من الإيرادات والدعم الذي استخدمه لارتكاب فظائع واسعة النطاق وانتهاكات لحقوق الإنسان تحول دون التوصل لحل سياسي وتقلل بشدة من احتمالات السلام».
وانتقدت روسيا والصين خطة الولايات المتحدة لفرض مزيد من العقوبات «من جانب واحد»، وقال سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا إن «غرض واشنطن من هذه الإجراءات هو الإطاحة بالسلطات الشرعية في سوريا».
وقال سفير الصين لدى الأمم المتحدة تشانغ جون إنه «في الوقت الذي تكافح فيه دول ضعيفة مثل سوريا جائحة كورونا، فإن فرض مزيد من العقوبات هو ببساطة غير إنساني وقد يتسبب في كوارث إضافية».
من جهة أخرى، تؤكد الإدارة الأميركية أنها لا تستهدف إسقاط النظام السوري، لكنها –بلا شك– ستعمل على استثمار «قانون قيصر» إلى أقصى حد، من أجل فرض شروط سياسية على دمشق، لاسيما بعد فشل محاولات إسقاطها عسكرياً، لعل النظام السوري يوافق –هذه المرة– على تقديم تنازلات لم يتمكن خصوم دمشق من انتزاعها قط. فـ«قانون قيصر» يستهدف فرض حصار خانق ليس فقط على سوريا، بل على الأفراد والكيانات السياسية التي تتعاون معه، وكذلك على الدول التي تتعاون مع دمشق، ولبنان –بالتأكيد– من إحداها.
كيف سيواجه لبنان؟
مع بدء تطبيق «قانون قيصر» الأسبوع الماضي، تتفاقم معضلة لبنان المأزوم مالياً واقتصادياً. ورغم أن الحكومة لم تتّخذ بعد، موقفاً واضحاً من العقوبات الجديدة إلا أن لبنان مرتبط بمعاهدة «أخوة وتنسيق وتعاون مع سوريا» منذ نحو ثلاثة عقود، وهناك اتفاقيات حيوية عديدة بين البلدين اللذين تربطهما حدود مشتركة، ولبنان ليس له من منفذ برّي إلى الخارج، لاسيما الأردن والعراق ودول الخليج، سوى عبر سوريا.
كذلك، هناك مجلس أعلى لبناني–سوري قائم دستورياً بين الدولتين، وله هيكليته ويرأسه أمين عام، ورغم تعطل أعماله منذ العام 2005، لكنه مازال فاعلاً لجهة تنفيذ الاتفاقيات، وقد سعى فريق «14 آذار» في أوجه، إلى إلغاء هذا المجلس والمعاهدة، لكن محاولته باءت بالفشل، لتبدأ بعد ذلك المطالبة بإقامة تبادل دبلوماسي بين البلدين، فنشأت سفارتان في بيروت ودمشق.
ومع قرع طبول «قانون قيصر»، أطلق بعض بقايا «14 آذار» حملة منظمة تحت عنوان منع التهريب إلى سوريا، لاسيما الوقود والمواد الغذائية والعملات الأجنبية، وسط اتهامات لـ«حزب الله» بتغطية أعمال التخريب لترتفع المطالبات بوضع لبنان تحت الفصل السابع بموجب القرار الدولي 1701، ونشر قوات دولية على الحدود مع سوريا، بهدف قطع شريان المقاومة، الذي يمتد عبر سوريا وصولاً إلى إيران، لضخ السلاح والأموال للحزب الذي اتهمته إسرائيل بإقامة مصانع صواريخ في الضاحية الجنوبية.
صفقة القرن؟
لا تغيب «صفقة القرن» لحل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وفق المشروع الأميركي عن «قانون قيصر»، كما كل العقوبات المفروضة على أطراف محور المقاومة، فأميركا بهذا القانون الجديد، تمارس «الإرهاب الاقتصادي» وفق وصف ألكسندر يغيموف، الموفد الرئاسي الروسي إلى سوريا، الذي أكد أنه من المستحيل أن تنجح العقوبات في تحطيم سوريا أو روسيا التي سبق وتعرّضت لعقوبات غربية بسبب ضمها لجزيرة القرم.
إن «قانون قيصر» محاولة جديدة لفرض الإرادة الصهيونية على سوريا ولبنان، بالإفقار والجوع والحصار، فهل ينجح القانون بتحقيق ما عجزت عنه الاضطرابات والفتن والحروب العسكرية التي استهدفت البلدين على مدى عقود؟
Leave a Reply