كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بالرغم من تسرّب أخبار عن توقفها، تستمر المفاوضات بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية، وقد تجاوز عدد جولاتها حتى الآن، 15 جولة، ترأسها عن الجانب اللبناني وزير المالية غازي وزني فيما لا يزال الصندوق ينتظر أن تتقدّم الحكومة بأرقام موحدة في ظل التباينات بين ثلاث جهات، الحكومة ولجنة المال والموازنة النيابية ومصرف لبنان، فضلاً عن عدم وجود خطة موحدة، وهو ما يربك النقاش حول آليات الخروج من الأزمة المالية–الاقتصادية التي وقع فيها لبنان، وأوصلته إلى حافة الانهيار.
وصفات الصندوق
في كل دولة حطّ فيها صندوق النقد، كمستشار تقني للمساعدة، كانت لديه وصفات باتت معلومة، وهي من ثوابت برنامجه وخططه التي تقوم على خفض الإنفاق الحكومي عبر رفع الدعم عن مواد غذائية وسلع أساسية يحتاجها المواطن، إضافة إلى فرض رسوم وضرائب للحد من العجز المالي مما يزيد أيضاً من إفقار المواطنين من محدودي الدخل.
وقبل صندوق النقد الدولي، كان العديد من الدول الداعمة قد اشترط على لبنان اللجوء إلى الإصلاح المالي والإداري، ومحاربة الفساد واعتماد الشفافية، للحصول على مساعدات، إضافة إلى رفع الدعم عن الكهرباء والمحروقات والقمح، وتخفيض الرواتب والتقاعد والتقديمات الاجتماعية، وهي شروط ستضطّر الحكومة إلى قبولها، مع إفلاس الخزينة العامة، ووقف المصارف عن تمويلها، بعد أن استهلكت أموال المودعين التي تبخّرت بين ليلة وضحاها، حتى قننت المصارف الدفع باعتماد «الكابيتال كونترول» غير المقونن، و«الحلاقة المالية» Haircut لأموال المودعين، مع ارتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار، والذي لامس السبعة آلاف ليرة، وقد لا يتوقّف عن الانهيار وصولاً إلى عشرات آلاف الليرات أو أكثر للدولار الواحد، طالما لا يوجد احتياط لدى مصرف لبنان من العملة الصعبة، لضخّها في السوق حفاظاً على سعر الصرف الرسمية «حالياً» عند 3,200 ليرة.
ولم تنجح الاجتماعات التي عقدتها الحكومة واللجنة المنبثقة عنها في وضع حد لارتفاع سعر صرف الليرة، ومكافحة السوق السوداء لبيع العملة الأجنبية، إذ دخل المضاربون على الخط سريعاً لجني الأرباح من تذبذب سعر الصرف، حيث استُخدم مبلغ الـ200 دولار الذي سمح للمواطنين بشرائه من الصرافين، في تجارة العملة، وذلك عبر شرائه من الصراف بسعر 3,900 ليرة للدولار الواحد، وفق المنصة الرسمية لمصرف لبنان، ليصار إلى بيعه في السوق السوداء بسعر خمسة آلاف ليرة وما فوق، وهو ما شكّل ازدحاماً أمام مكاتب الصيرفة، ليتم بعد ذلك وقف هذه الآلية التي ظهر فيها الفساد والجشع، واستبدالها بآلية أخرى مرتبطة بحاجات محددة للدولار، كدفع قرض سكني، أو تعليم وسكن في الخارج للطلاب، مع إبراز مستندات تثبت ذلك، للحصول على الدولارات.
إلغاء الدعم
في ظل تعثر تنظيم سعر صرف الليرة، والارتفاع الجنوني للدولار الأميركي، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن، مع ارتفاع أسعار السلع بأكثر من 300 بالمئة، فإن الحكومة عبر وزير الاقتصاد راوول نعمة، تدرس أن ترفع الدعم عن المشتقات النفطية من بنزين ومازوت وغاز، وهي حاجات ضرورية للمواطن.
وفي الواقع، فإن الحكومة لا تموّل المشتقات النفطية، بل تفرض رسوماً عليها، وتضع جدولاً أسبوعياً للأسعار، وفق سعر برميل النفط عالمياً، ولطالما اعتبرت الحكومات المتعاقبة، الرسوم على الوقود من الموارد الأساسية للخزينة، من خلال رسم القيمة الإضافية TVA، ورسم ضريبي آخر وصل إلى نحو 15 ألف ليرة لصفيحة البنزين ومثلها للمازوت وقنينة الغاز. وقد اضطرّت الحكومة السابقة أن تخفض الرسم نحو خمسة آلاف ليرة، بعد أن بلغ ارتفاع سعر صفيحة البنزين أكثر من ثلاثين ألف ليرة، وتحرك الشارع احتجاجاً على هذا الارتفاع الذي انعكس زيادة في الأسعار للمواد الغذائية أولاً، كما في سلع أخرى أساسية. وقد اضطّر ذلك أيضاً، وسائل النقل العام إلى رفع سعر التعرفة للراكب من ألف ليرة إلى ألفين، بنسبة 100 بالمئة، في بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه 675 ألف ليرة.
ومع المضي في مسار الأزمة تتراكم أعداد الفقراء في لبنان، وتتراجع نسبة المنتمين إلى الطبقة الوسطى، الذين كانوا في غالبيتهم من الموظفين الرسميين الذين أصبحت رواتبهم لا تكفي لشراء الحاجيات الأساسية، وقد تزداد الأزمة تفاقماً مع طرح وزير الاقتصاد برفع سعر المشتقات النفطية بتحميلها رسوماً إضافية من خلال رفع الدعم واعتماد سعر صرف الدولار، فضلاً عن إلغاء الدعم عن القمح والطحين، وتحرير سعر الكهرباء، التي تشكّل عبئاً سنوياً على الخزينة بحوالي ملياري دولار، وذلك لعدة أسباب من بينها سرقة التيار الكهربائي حتى من أصحاب المولدات، كما من فنادق وشاليهات ومخازن ومنازل سياسيين ونواب ووزراء، إضافة إلى عدم جباية الفواتير التي تتولاها شركات خاصة. إذ تظهر لوائح أصدرتها مؤسسة الكهرباء ومراكز أبحاث، تمنّع مناطق من دفع فواتير الكهرباء، إضافة إلى تخلّف المخيمات الفلسطينية عن الدفع، وكذلك النازحين السوريين الذين زادوا من الضغط على البنية التحتية والخزينة المتهالكة، التي تكبّدت نحو عشرين مليار دولار عليهم، ولم يحصل لبنان سوى على ربع المبلغ كمساعدات ومنح مالية من بعض الدول.
ثورة رغيف
هذا التوجّه الحكومي، من خلال اقتراح وزير الاقتصاد، والذي يراد تسويقه على أنه دعم للعائلات الأكثر فقراً، يتضمن توزيع قسائم على السائقين العموميين والمزارعين والصناعيين للحصول على دعم مباشر من الدولة، لم يقنع أطرافاً عديدة في الحكومة، ومنها «حزب الله» الذي يعترض على فرض رسوم وضرائب إضافية، مؤكداً أن طرح وزارة الاقتصاد، ليس رفعاً للدعم بل زيادة للرسوم. ويطالب معارض هذا التوجه بفرض رسوم وضرائب، تطال أصحاب الأموال والرساميل، لا أن تمس رغيف المواطن الذي بات على أعتاب ثورة رغيف.
إذ أن الحكومة لم تقدم بعد، موازنة فيها عدالة ضرائبية، ولم تقترح قوانين تتّجه إلى معاقبة المتهربين من دفع الضرائب، وهذا ما يكشف عن أن أي تغيير في السياسة المالية والنقدية لم يحصل بعد، مع حكومة حسان دياب، التي قد تحفر قبرها بيدها من خلال رفع أسعار المشتقات النفطية دون توفير بدائل كالنقل العام، وإلغاء الدعم عن القمح والطحين، كما حصل مع الحكومة السابقة برئاسة سعد الحريري التي لجأت إلى رفع سعر «المكالمة الهاتفية» عبر «الواتسآب» نحو 6 سنتات، فقامت بوجهها انتفاضة في الشارع، سرعان ما تطوّرت إلى «حراك شعبي» ملأ الساحات والشوارع منذ 17 تشرين الأول من العام الماضي، ولم يتوقّف حتى اليوم.
مئة يوم للحكومة
وإذا كانت الحكومة قد أعطت لنفسها مهلة مئة يوم لوضع القطار على السكة والبدء بتنفيذ ما ورد في بيانها الوزاري، وقد أعلن رئيسها، حسان دياب، أنه أنجز 97 بالمئة منه أهداف المرحلة الأولى، منذ نيل ثقة مجلس النواب، فإن المئة يوم الثانية، والتي تنتهي مطلع آب القادم، ستكون حاسمة بالنسبة لمصير حكومة دياب.
فهذا الموعد الذي حدده وزير الاقتصاد للبدء برفع الدعم عن النفط والقمح والطحين، قد يكون الشرارة التي ستشعل الشارع مجدداً بوجه الحكومة التي يبدو أنها تحفر الحفرة لنفسها بنفسها، إذا ما لجأت إلى هذا الإجراء غير الشعبي، لأنه –ببساطة– ليس عادلاً.
لا يجادل أحد بأنه على الحكومة أن تلجأ إلى إجراءات تقشفية مؤلمة، ومنها تخفيف فاتورة استيراد المشتقات النفطية، وإلغاء قسائم الوقود التي توزّع على موظفين مدنيين وعسكريين في المؤسسات الرسمية، أما الميسورون، فيمكن تحميلهم رسوماً وضرائب إضافية بعيداً عن جيوب الفقراء ولقمة عيشهم. ولا يمكن لوزير الاقتصاد أن ينفّذ وصفات صندوق النقد الدولي، بإلغاء دولة الرعاية في لبنان، إذ أن المطلوب شعبياً دور أكبر للدولة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتعميم البطاقة الصحية، وتعزيز التعليم الرسمي، وتوفير القروض السكنية.
Leave a Reply