وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
ليلة 26 حزيران (يونيو)، هاجمت قوة من مكافحة الإرهاب مقراً لأحد فصائل الحشد الشعبي واعتقلت عدداً من عناصره على خلفية اتهامهم بالإعداد لهجمات ضد القوات الأميركية والإساءة لعلاقات البلاد مع دولة صديقة وزعزعة الأمن. الغارة اعتبرها «الحشد» مؤامرة ضده نافياً كل الاتهامات التي وصفها بأنها ليست إلا ذريعة اتخذها الكاظمي لمهاجمته.
لم تهدأ الساحة العراقية منذ ذلك الوقت. اتصالات ومشاورات على أعلى المستويات، لتطويق الحادثة التي اعتُبرت سابقة، حملت معها خشية كبيرة من تفجر نزاع واسع بين «الحشد» والقوى الأمنية الرسمية، علماً بأن «الحشد الشعبي» كما هو معروف يدخل ضمن تشكيلات القوى الرسمية التابعة للسلطة والتي تنضوي جميعها إلى قيادة السلطة التنفيذية بشخص رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي.
وبعد أخذ ورد على مدى نحو أسبوع، أُطلق سراح الموقوفين وتم ترتيب لقاء يشبه لقاء المصالحة لإزالة ملابسات الحادث وإنهاء التشنج، حضره قادة من جهاز مكافحة الإرهاب وآخرون من الحشد الشعبي، وقد حُكي عن طلب شخصي من الكاظمي بتأجيل اللقاء بعض الوقت كي يتمكن من الحضور والمشاركة فيه شخصياً، مسبغاً عليه صفة رسمية، لكنه في الوقت عينه كان يرغب في الظهور بمظهر الراعي الذي يحتوي كل المختلفين، بالرغم من أن مصادر في الحشد كانت واضحة في اتهامه بالوقوف مباشرة وراء أمر دهم مقرها، بل أكثر من ذلك، ذهبت تلك المصادر إلى تبرئة جهاز مكافحة الإرهاب من الواقعة والقول إن القوة المهاجمة لم تكن تعلم بأن المقر تابع لأحد فصائل الحشد.
مكافحة الإرهاب
الخبير الاستراتيجي والأمني فاضل أبو رغيف، وصف لـ«صدى الوطن» لقاء الأربعاء الماضي، بأنه «خطوة إيضاحية»، وقد امتصت الاحتقان الذي ساد الأيام التي أعقبت عملية إلقاء القبض على عدد من عناصر «الحشد» من قبل جهاز مكافحة الإرهاب.
وأكد أبو رغيف أن الأمر صدر عن القضاء العراقي من قبل قاضي جهاز مكافحة الإرهاب شخصياً. وبالفعل، يضيف، عندما قُبض على أحد الأفراد المشتبه فيهم كان برفقة عناصر من أحد قواطع عمليات هيئة «الحشد الشعبي» القانونية، فيما يلفت إلى أن الذي حدث ينبغي عدم تكراره والتركيز على المذنبين الحقيقيين، في إشارة واضحة منه إلى وجود أفراد مسؤولين فعلاً عن العمليات ضد القوات الأميركية، معتبراً أن الوضع في العراق لا يحتمل المزيد من التوتر، ولاسيما في ظل جائحة كورونا وانهيار الوضع الاقتصادي والانعطافة السياسية التي تمر بها البلاد، وتجاذب الكتل السياسية للاستحصال على المغانم من مراكز ووزارات. و«كل هذه الأسباب قد تسهم مجتمعةً في إشعال فتيل أزمة ومشكلة بين الفينة والأخرى».
وفي تفاصيل مسببات الحادث يقول الخبير أبو رغيف إن هناك متهماً مازال معتقلاً وهو يخضع للتحقيق، وتمّ رفع للبصمات عن إحدى المنصات التي ضُبطت سابقاً قبل نحو ثلاثة أشهر إثر استهداف قاعدة عسكرية في شمال البلاد، وثمة تطابق في البصمات، وكل هذا يتم بإشراف القضاء العراقي، وبمعزل عن قوات التحالف أو القوات الأميركية.
مظلة القانون
هل انتهت مفاعيل الحادث عند هذا الحد؟ وهل رفعت كتائب «حزب الله» الغطاء عن المتهم ووافقت على تسليمه؟ يجيب أبو رغيف بأن كتائب «حزب الله» رفضت هذا الاتهام، ولكنها لجأت إلى الطرق القانونية وأوكلت محامياً للدفاع عن المتهم الذي ينتسب إليها، ويعتقد أيضاً أن «حزب الله العراقي» هو فصيل عراقي ينبغي أن يخضع للقوانين التي يخضع لها كل مواطن عراقي من قبل مجلس القضاء الأعلى.
الناطق باسم «كتائب حزب الله» جعفر الحسيني كان قد أعلن منذ أيام أنهم كفصيل موجود على الساحة وافقوا على تكليف الكاظمي شرط تسليمه بضرورة إخراج القوات الأميركية من العراق.
يرد أبو رغيف على هذا الكلام معتبراً أن وجهة النظر هذه تمثل فصيلاً واحداً من فصائل متعددة، علماً بأن كل الأطراف الشيعة مجمعون على ضرورة إنهاء الوجود الأميركي، ويشمل ذلك كتلة «سائرون» وهي الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي إضافةً إلى كتلة «الفتح»، التي تقدمت هي الأخرى بطلب جلاء القوات الأميركية من خلال اتفاقية الإطار الاستراتيجي المبرمة بين واشنطن وبغداد، لذلك فإن العراقيين ملزمون بتنفيذ قرار مجلس النواب العراقي.
لكن يبقى لدى الكاظمي هامش كبير من مساحة المناورة، بالنظر براغماتياً إلى استمرار الوجود الأميركي على الأراضي العراقية، والذي يُعتبر وجوداً لازماً من قبل بعض الفصائل والكتل.
أوراق اعتماد للأميركيين
غير أن ما جاء في تصريح الناطق باسم «كتائب حزب الله» جعفر الحسيني، الذي قال إن الكاظمي أخطأ بتقديم أوراق اعتماده بهذا الشكل للأميركيين من خلال الهجوم على الحشد الشعبي، فهو بمثابة اتهام مباشر وواضح للكاظمي بأنه يحاول استرضاء الأميركيين بأية طريقة، لكن أبو رغيف يرى أن هذا الاتهام طبيعي ويتلاءم مع موقف «كتائب حزب الله» تجاه أي طرف يؤيد الوجود الأميركي في العراق.
ولا ينكر أبو رغيف حساسية التهجم على رئاسة الحكومة من قبل الحشد الشعبي لافتاً إلى أن القائد العام للقوات المسلحة الذي هو الكاظمي حينما ارتقى سدة رئاسة الوزراء ارتقاها بتوافق جميع الكتل السياسية ولاسيما الشيعية.
لكن أليس المساس بـ«الحشد»، في المقابل، تجرؤ على المرجعية باعتباره انطلق وتأسس بفتوى منها؟
يعتقد المحلل أبو رغيف أن المرجعية الشيعية في النجف كان لفتواها عام 2014 الوقع الكبير حين أمرت بإنفاذ الواجب الكفائي، حيث لبّت نداءها كل أطياف الفسيفساء العراقية من سنة وشيعة وكرد، وحتى مسيحيين وأيزيديين ومن كل الأقليات. لذللك فإن المرجعية في العراق وتحديداً في النجف تعي ملياً أن أي قرار يصدر باتجاه الحشد قد يسبب حساسيةً وحرجاً شديدين لها، من هنا هي تولي عنايةً خاصة لهذا الأمر، لأن قراراً مشابهاً يُعد قراراً مفصلياً، لإيران فيه دور، وقد يستدرج تناقضاً بين مرجعيات شيعية داخل العراق نفسه أو بين مرجعيات تدين بالولاء لإيران.
المفاوضات العراقية الأميركية
إلى أين تتجه الأمور في المفاوضات بين الحكومة العراقية والقوات الأميركية الموجودة على الأرض؟ هل هي عملية تقطيع وقت، أم أنها يمكن أن تصل إلى جدول زمني حقيقي لانسحاب تلك القوات؟
يشير أبو رغيف إلى أن هذه المفاوضات ستنطلق جولتها الثانية خلال هذا الشهر، ومن المبكر إصدار أحكام بشأنها، لأن العراق تربطه مصالح تجارية وسياسية واقتصادية عميقة مع الولايات المتحدة، وهناك مشاكل عالقة كالأجواء العراقية والسواحل البحرية، وهناك أيضاً الملف الاقتصادي، ولاسيما في ملف الكهرباء ونقل النفط والغاز، لافتاً إلى أن هناك تضييقاً على العراق من قبل الأميركيين كي يفض تواصله مع إيران، وهو الذي يستورد الطاقة والكهرباء منها، لكن عليهم، بحسب رأيه، أي الأميركيين، أن يوفروا بدائل سلفاً قبل أن يطلبوا فك عرى التبادل الاقتصادي مع إيران.
وعن الدور الإيراني في العراق يعتبر أبو رغيف أن إيران لا تشكل نقطة وصل عابرة، إنما هي نقطة ارتكاز استراتيجية داخل العراق. إيران لا زالت ترى في العراق ساحة خلفية لها، وهو المتنفس الاقتصادي لها وللحصار المفروض عليها، إنه بوابتها والرئة التي تتنفس من خلالها، كما أن لديها في الداخل العراقي قيادات وفصائل موالية لها، وهناك الكثيرون من مقلدي المرجعية الإيرانية عقائدياً، لذلك فإن طهران ما تزال لاعباً قوياً وصلباً وليست لاعباً فتياً على الساحة العراقية، بمعنى أنها لاعب قطع شوطاً طويلاً بعد عقود من الزمن، ولا سيما بعد 2003 وما تلاه، لذلك هو يعتقد أن الإيرانيين يضطلعون بدور كبير جداً في توجيه السياسة العراقية بطريقة براغماتية بحتة.
الكاظمي واستحالة المهمة
يدافع أبو رغيف عن مصطفى الكاظمي معتبراً أنه قبل الرهان واتخذ منه تحدياً على نحو شجاع، وهو يواجه تحدياتٍ ثلاثة: التحدي الصحي وسط جائحة كورونا، والتحدي الاقتصادي في ظل الركود الحاصل وانخفاض سعر النفط، وثالثاً التحدي السياسي مع توجه الكتل السياسية كل على طريقتها، إلى اقتناص المنافع والمغانم والمراكز والوزارات والهيئات المستقلة.
لكن هل للكاظمي القدرة على النجاح والاستمرار؟ يقول أبو رغيف إن المهمة صعبة جداً وشائكة وتكاد تكون مستحيلة وأن الأمور قد تنزلق إلى المواجهة المباشرة بين الحشد والسلطة الرسمية، لأن البعض يتهم الكاظمي بتنفيذ أجندة أميركية وصل إلى السلطة بموجبها، وقوامها عدد من الخطوات المفصلية تبدأ باستبدال المحافظين والقادة الحاليين في المراكز الحساسة بآخرين محسوبين عليه، ولا تنتهي بتحشيد أكبر عدد من الإعلاميين الموالين له، واستبعاد أولئك الموالين للحشد، إضافة إلى خطوات أخرى لا تقل أهمية وخطورة. لذلك يقف «الحشد الشعبي» عند مفترق الطريق، ومن خلفه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الجارة الحاضرة بقوة، وربما، لقطع الطريق على الكاظمي وإفشال كل مخططاته المزعومة.
Leave a Reply