محمد العزير
بشيء من التفاؤل، وقليل من الإلمام، يمكن القول إن العرب الأميركيين يقفون اليوم على عتبة تحول كبير، لم تتح لهم فرصة مماثلة له منذ صدمة الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول 2001. فرصة؛ إذا أحسنت النخب العربية الأميركية، وخصوصاً من الجيل الجديد الذي أثبت في السنوات الأخيرة كفاءة وجدارة عاليتين، استغلالها، قد تكون بداية انطلاقة جديدة على المستويات المحلية والمستوى الوطني، لإزالة اثار سنوات الضياع التي ناهزت القرنين، والعودة إلى دائرة الفعل والتأثير في السياسة العامة وخصوصاً ما يتعلق بالقضايا الحيوية سواء في مجتمعنا الجديد أو في الوطن الأم.
قد يرى البعض في هذه المقدمة إفراطاً في التفاؤل، وقد يعتبره آخرون من باب التمنيات والأحلام، وليس مستبعداً أن يسخر «الواقعيون» من التهيؤات غير المنطقية. لكن جملة واحدة تجيب على كل هؤلاء Black Lives Matter، «حياة السود مهمة». جملة تختزل الحراك الأفريقي الأميركي الذي بدأ خجولاً عام 2013، بعد الحكم ببراءة القاتل الأبيض جورج زيمرمان الذي أردى الفتى الأسود تريفون مارتن في فلوريدا في شباط من العام 2012، دون ذنب سوى أنه كان يرتدي كنزة لها قبعة Hoodie.
استخفاف القضاء والمحلفين والرأي العام قاد بضعة ناشطين إلى إطلاق «هاشتاغ» بالاسم نفسه يدعو إلى تحركات سلمية للتنبيه إلى العنصرية المتأصلة في المجتمع الأميركي ضد السود والملونين.
مع وصول الشعبوي العنصري دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية على موجة ساخطة ضد السود وذوي الأصول اللاتينية والمسلمين والمهاجرين، ودغدغته العلنية لأكثر مشاعر العنصريين البيض انحطاطاً في قاعدته الشعبية، ازدادت الأعمال العنصرية الفردية من قبل الشرطة والعنصريين، فيما اندفعت إدارته عبر الأوامر التنفيذية والسياسات الحكومية إلى استهداف كل ما هو غير أبيض من أصل أوروبي، وازدادت الحاجة إلى الرد على ذلك في الشارع في ظل خنوع الحزب الجمهوري، الذي يسيطر على الكونغرس في أول سنتين من عهده وعلى مجلس الشيوخ حتى الآن، إلى أن طفح الكيل أواخر أيار الماضي بعد انتشار فيديو مقتل الأسود جورج فلويد تحت ركبة شرطي أبيض معروف بعنصريته وتجاوزاته السابقة.
وعلى الرغم من وباء كورونا والحجر الصحي تحولت حركة «حياة السود مهمة» التي ليست لديها قيادات أو لجنة مركزية أو متحدثون رسميون إلى زلزال ضرب المؤسسة الأميركية حتى الجذور فأطاح تماثيل عريقة وأنزل أعلاماً من مخلّفات الحرب الأهلية… والأهم فتح باب التعديلات القانونية لصلاحيات الشرطة والتشريعات ذات الطبيعة العنصرية في أميركا كلها. ولا زلنا نشهد يومياً تداعيات ذلك الزلزال الهائل.
لم يتوان العرب الأميركيون، خصوصاً الشباب، وبحصرية أكثر الصبايا، عن المشاركة في المسيرات والاحتجاجات، وتحولت المشاركة التي كانت لسنوات مضت تقتصر على النشطاء، إلى مشاركة شعبية أوسع في أكثر من تجمع سكاني عربي بقيادة شباب جله من المتعلمين والمختصين والمهنيين والحقوقيين. يمكن لهذه المشاركة النشطة أن تتحول إلى ظاهرة مرموقة على المستوى العربي الأميركي، ليس في ظل حركة «حياة السود مهمة» وإنما بالتوازي معها، والتنسيق مع كوادرها والاستفادة من تجربتها. والأمر لا يتطلب أكثر من مبادرة إلى جمع النشطاء العرب الأميركيين في كل أماكن الكثافة السكانية لبناء شبكة تتواصل فيما بينهم للقيام بنشاطات وتحركات شعبية وإعلامية دون إثقال المؤسسات الحزبية ودون العودة إلى النزاعات التقليدية بين فصائل وتنظيمات وشخصيات انكفأت عن العمل العام طوال الفترة الماضية… بالطبع ليس المفروض استبعاد من يريد المشاركة، لكن المشاركة تكون بصيغة فردية لا محاصصة فيها ولا أسبقية ولا تواريخ «مجيدة».
سيؤدي نجاح مبادرة كهذه إلى تحقيق أهداف حيوية جداً للعرب الأميركيين أبرزها:
1– استعادة الهوية العربية الأميركية الشاملة التي كانت معتمدة قبل الحادي عشر من أيلول، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المؤسسات الدينية التي ساهمت في زعزعة أركان الوجود العربي الأميركي وحولته إلى طوائف ومذاهب تتناحر على إيقاع أمراض الوطن الأم.
2– إيجاد ملتقى دائم للشباب العربي الأميركي الناشط، وخصوصاً الناشطات منهم، يمكّنهم من الإبداع في طرح الحلول والأفكار، بعيداً عن الأطر الحزبية والمؤسسية التقليدية، وفي جو خالٍ (من المؤسف أن هناك حاجة للتشديد على ذلك) من التحرش الجنسي أو التعييب الاجتماعي. تحقيق ذلك سيكون المرة الأولى التي تنصب فيها مؤهلات وكفاءات ومواهب الجيل العربي الأميركي الجديد، الذي لا يجد مكاناً على الخريطة المؤسسية حتى الآن.
3– التحكم المحلي بترتيب الأولويات وفق الحاجة العربية الأميركية بعيداً عن إملاءات وأمراض الوطن الأم المهجوس بالمذهبية والطائفية والجهوية والنهب والفساد. سيكون للعرب الأميركيين من جديد صوتهم الريادي، وليس التابع في تحديد قضاياهم. فبدل الدعوات للتظاهر والتأييد والاستنكار على وقع النخب السياسية والدينية والإجتماعية الفاسدة في لبنان وسوريا واليمن وفلسطين والعراق (باعتبارها الأكثر حضوراً)، سيضع أبناء المجتمع الجديد برنامج العمل الذي يحتاجون اليه بدون بالدم بالروح… وبدون عاش فلان أو ليسقط علتان.
4– إعادة مركزية قضية فلسطين كأساس جامع وحقيقي للطاقات والموارد الشبابية، في ظل التحول الهائل الذي يشهده الرأي العام الأميركي في النظر إلى قضية فلسطين كقضية حق ومسألة أخلاقية وإنسانية، وليست مجرد قضية شوفينية أو شعبوية. في هذا المجال سيجد العرب الأميركيون الكثير من المؤسسات الفاعلة المستعدة للعمل معهم والتفاعل مع نشاطاتهم بعيداً عن المزايدات المزمنة التي تستخدم كذرائع لتبرير الحروب الأهلية والديكتاتوريات.
5– إحياء الأمل بدور ريادي عربي أميركي يؤثر على مجريات الأمور في الوطن الأم ويمنح شبابه وأهله شيئاً من الثقة بعلاقة صحية مع امتدادهم الاغترابي تقوم على أنقاض العلاقة المرضية الحالية التي تجعل سلطات ونخب الوطن الأم تستتبع العرب الأميركيين كامتداد لجمهورها المضمون في الوطن والمخصص للصرف الطائفي والمذهبي والكيدي.
لا شك أن للكثير من المخضرمين من نشطاء الجالية، خصوصاً غير المصنفين في خانات وولاءات مسبقة، دوراً حيوياً في هذه المبادرة. لكن لا بأس من أن نتعلم الدرس الذي فرضته «حياة السود مهمة». رأينا جميعاً كيف أن النخب الأفريقية الأميركية التقليدية من قيادات حركة الحقوق المدنية التاريخية وأعضاء الكونغرس على المستويين الفدرالي والمحلي والمسؤولين المنتخبين في مختلف المناصب التحقوا بحركة «حياة السود مهمة» دون دفتر شروط، ودون تنظير أو مكابرة… ودون إصرار على الجلوس في المقاعد الأمامية.
هكذا يمكن للعرب الأميركيين الذين حملوا هم قضايانا على حسابهم أن يكونوا ذوي دور فعّال جداً في إنجاح هذه المبادرة، خصوصاً من خلال حمايتها من محترفي التسلق والموبوئين والساقطين أخلاقياً. انها لحظة العرب الأميركيين فهل تتحقق؟
Leave a Reply