كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أحرق المواطن التونسي محمد البوعزيزي، نفسه نهاية العام 2010، بسبب البطالة والفقر، فأشعل ثورة شعبية سرعان ما امتدت نيرانها إلى أكثر من بلد عربي في ما سمي بـ«الربيع العربي»، وسط دعوات لإسقاط الأنظمة ومحاربة الفساد وتأمين فرص العمل وغيرها من المطالب الشعبية، إلا أن ما أقدم عليه البوعزيزي قبل عقد من الزمن، لم يعد له المفعول نفسه اليوم.
البوعزيزي في لبنان
ظاهرة البوعزيزي، أو النموذج، انتقلت إلى لبنان، حيث حرق وقتل أشخاص أنفسهم، للحصول على رغيف خبز لإطعام أولادهم، أو بسبب عجز الأب عن دفع الأقساط المدرسية، بينما انتحر شاب لأسباب مالية وضائقة اقتصادية، وآخر لعدم تمكّنه من الحصول على عمل، بحيث بلغ عدد اللبنانيين الذين قتلوا أنفسهم علناً نحو خمسة أشخاص خلال أيام معدودة.
حوادث الانتحار وصلت إلى نسبة عالية، وإن كان العامل النفسي يدخل في بعضها، وهو متأتٍّ من الظروف الاقتصادية–الاجتماعية الصعبة، وقد جرى التوقف أمام الرقم العالي من حوادث الانتحار، والتي بلغت أكثر من حادثة في يوم واحد، كما جرى الأسبوع الماضي، عندما أطلق الشاب علي الهق، النار على نفسه من مسدس حربي، في شارع الحمراء بمنطقة رأس بيروت، وبقي لنحو أربع ساعات ممدداً على الرصيف، وسط هول الناس وصراخهم واحتجاجهم، وقد كتب على لوحة وجدت إلى جانبه أنه ليس بكافر، إنما «الجوع كافر»، كما كما قضى المواطن خالد يوسف انتحاراً في منزله بمدينة صور، ورمى مواطن آخر بنفسه من على شرفة منزله في بلدة بعبدات – قضاء المتن الشمالي، وأطلق سائق سيارة أجرة يدعى سامر حبلي النار على نفسه في منطقة جدرا في إقليم الخروب والأربعة هم بأعمار متفاوتة وبعضهم بسن متقدمة تفوق الستين عاماً، وأن إقدامهم على قتل أنفسهم، يدل على أن المجتمع اللبناني بات يوصف بمجتمع اليأس والفقر والجوع والإحباط، وفقدان الأمل بالمستقبل، بعد أن أوصلهم إلى ذلك، حكام فاسدون أطبقوا على السلطة منذ العام 1990 بعد اتفاق الطائف، وقبله بسنوات وعقود.
الضغوط الأميركية
انتحار الهق في وسط الشارع وآخرين في منازلهم، لم يحرّك المنتفضين على السلطة الحاكمة، بل طويت صفحة المنتحرين سريعاً، وظل الحراك الشعبي يراوح مكانه ولم يتقدّم نحو الأمام منذ انطلاقه في 17 تشرين الأول من العام الماضي، وسط استمرار تدهور الوضع المالي مع وصول سعر صرف الدولار إلى حوالي عشرة آلاف ليرة لبنانية في السوق الحرة، وهو إلى مزيد من الارتفاع، وفق خبراء ماليين واقتصاديين، إذا لم تسرع الحكومة في الإصلاح وتتحرّك عجلة الاقتصاد مجدداً بعودة تدفق رؤوس الأموال للاستثمار في لبنان.
لكن ذلك لن يحصل في المدى القريب، لعدة عوامل، من بينها الضغوط الأميركية على لبنان لإخراج «حزب الله» من الحكومة وأية حكومة أخرى قد تُشكّل، وسط تهديدات بأن لبنان قد يخضع لمزيد من العقوبات والحصار المالي والاقتصادي، مع بدء تطبيق «قانون قيصر» الهادف إلى محاصرة النظام في سوريا ودفعه إلى الاستسلام للشروط الأميركية التي سبق وتمّ إبلاغها للرئيس بشار الأسد منذ 17 عاماً (شروط كولن باول)، وأبرزها خروج سوريا من محور المقاومة وطرد حركة «حماس» وفصائل المقاومة من سوريا وفك ارتباط النظام بإيران وذراعها في لبنان «حزب الله»، وهذا ما رفضته سوريا، فكانت الحرب الأميركية عليها، وهذا ما حصل في لبنان أيضاً منذ العام 2005 مروراً بالعدوان الاسرائيلي صيف 2006.
وقد بدأت هذه الشروط تظهر مجدداً من خلال بعض أطراف الحراك الذين لجأوا إلى تحريف المطالب الاجتماعية والاقتصادية، نحو إسقاط كل حكومة فيها «حزب الله» الذي عليه تسليم سلاحه، وهو مطلب أميركي عبّر عنه وزير الخارجية مايك بومبيو وكل المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم السفراء الذين تعاقبوا في لبنان.
الحراك يراوح مكانه
في ظل الضغوط الأميركية التي تتوالى على لبنان، فإن «الحراك الشعبي» الذي لم يفرز قيادة أو برنامجاً بعد 9 أشهر على نزوله إلى الشارع، فشل حتى الآن في تحقيق أي هدف من أهدافه سوى استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، ليس بسبب الحراك في الشارع بل لأنه طُلب منه ذلك، لعدم رضا السعودية على «التسوية الرئاسية» التي كان شريكاً فيها، لتبدأ مذّاك عملية إسقاط عهد الرئيس ميشال عون، باعتباره الحليف الرئيسي لـ «حزب الله» الذي ساهم بوصوله إلى رئاسة الجمهورية من خلال «اتفاق مار مخايل» بين الطرفين.
وبالفعل بدأ الحديث عن رحيل العماد عون، وهو ما أفصح عنه رئيس «حزب القوات اللبنانية» سمير جعجع، والذي سبق له وقاد حملة «فل» ضد الرئيس إميل لحود، والتي باءت بالفشل. وهو يحاول اليوم تكرار الأمر نفسه مع عون، باعتبار أن رحيله يفقد «حزب الله» موقعاً أساسياً في السلطة. إذ يدفع مناصرو «القوات» ومحازبيهم في الساحات، إلى طرح رحيل الرئيس عون، لكن هذا المطلب لم يلق استجابة شعبية، لاسيما وأن للرئيس تياراً سياسياً وشعبياً وكتلة نيابية وحلفاء كثراً.
وأمام التجاذبات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية والأزمة الاقتصادية الخانقة، يواجه «الحراك الشعبي» الذي انطلق بعفوية قبل بضعة أشهر، امتحان «تصحيح المسار»، لمنع استغلاله باتّجاه تنفيذ أجندة خارجية وفق القرار 1559، وهو مطلب أميركي–إسرائيلي. وقد توجهت مجموعة لا تتعدى العشرين شخصاً إلى السفارة الأميركية للمطالبة بتدخلها لتنفيذ القرار المذكور، والذي ينص على حل الميليشيات –والمقصود طبعاً «حزب الله»– بهدف إلغاء قوة لبنان التي شكّلت رادعاً للعدو الإسرائيلي.
لكن مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية، لم يعد بإمكان «الحراك» أن يستمر بالأسلوب الفوضوي الذي لم يثبت نجاحه قط، لاسيما في استخدام العنف والتكسير والتخريب وقطع الطرقات، لأن في ذلك مزيداً من الخسائر المدمرة للاقتصاد وسط انعدام الحلول وفرص الإنقاذ بعد أن أظهرت الحكومة الحالية ضعيفة بسبب تلكئها في اتخاذ القرارات وعدم خبرة وزرائها، مما يستوجب من الحراك الشعبي، توحيد جهوده في اتجاه إنتاج قيادة وبرنامج إصلاحي جذري يؤسس لبناء دولة حديثة قائمة على نظام سياسي لا طائفي وقانون انتخاب خارج القيد الطائفي، وهو ما ورد في اتفاق الطائف حبراً على ورق بنود إصلاحية لم تبصر النور قط لانعدام آليات تطبيقها.
هل يحصل انقلاب؟
أمام التخبّط والتشرذم اللذين يعيشهما «الحراك الشعبي» المتنوّع سياسياً والفاقد لوحدة البرنامج، والذي يجمعه شعار واحد، بأن كل الطبقة السياسية الحاكمة، هي المسؤولة عن الحالة المزرية التي وصل إليها اللبنانيون بعد أن بلغت نسبة الفقر بينهم حدود 60 بالمئة، تحرّك بعض الضباط المتقاعدين، غير الملتزمين بمراجع طائفية وسياسية ويقودهم العميد المتقاعد النائب شامل روكز الذي ابتعد عن العهد وبات ضده بعد أن ترك «تكتل لبنان القوي» الذي يتزعمه النائب جبران باسيل الذي هو على خصام معه. فقد بادر هؤلاء الضباط إلى عقد اجتماعات، لتقويم «الحراك» الذي كانوا بدأوه قبل سنوات وسبقوا فيه «الحراك الشعبي» بمطالب خاصة بهم، ثمّ انضموا إليه، وكانوا فاعلين فيه.
وينسق هؤلاء المتقاعدون مع ضباط ما زالوا في الخدمة، ومجموعات من «الحراك»، وقد بدأوا بعقد اجتماعات تنظيمية ولقاءات شعبية في مختلف المناطق بحثاً عن مخرج من حالة الجمود والمراوحة، والبدء بعمل جدّي منظم، لا يستبعد أن يكون أشبه بانقلاب عسكري–مدني، أي أن تقوم مجموعات عسكرية بالسيطرة على مؤسسات الدولة والإعلان عن حالة طوارئ بمساندة شعبية والبدء بخطوات جريئة، مثل مصادرة أملاك الفاسدين واستعادة المال المنهوب وتوقيف المتورطين بالفساد ممن عاثوا فساداً في مؤسسات الدولة على مرّ عقود.
إن التداول بهذه المعلومات، يجري في أطر ضيقة، كي لا يجهض هذا التحرّك الإنقاذي من قبل الطبقة السياسية الفاسدة.
Leave a Reply