هل هي بداية لتشكيل حلف سياسي جديد بوجه المقاومة
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يحاول البطريرك بشارة بطرس الراعي، أن يسلك طريق بعض ممن سبقوه من بطاركة الطائفة المارونية. فمنذ قرن، أُعلن عن قيام دولة لبنان الكبير باتفاق فرنسي مع البطريرك الياس الحويّك الذي يعتبره الموارنة باني «مجد لبنان» الذي أعطي لبكركي، أما البطريرك السابق نصرالله صفير، الذي يصفه البعض بأنه «صانع الاستقلال الثاني» نتيجة الدور الذي أداه قبل انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان 2005، وهو الذي رعى «لقاء قرنة شهوان» للمطالبة بهذا الانسحاب الذي تحقّق إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط من العام نفسه. أما الراعي اليوم فقد قرر في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، العزف على الوتر الأميركي، عبر الدعوة إلى حياد لبنان كي تنفرج أزمته.
الحياد
موضوع حياد لبنان، ليس بالجديد، فقد سبق أن جرت المطالبة به منذ العام 1959، مع نشوب الصراع بين المشروع الأميركي للرئيس دوايت إيزنهاور لمحاربة الشيوعية، والرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أقام وحدة مع سوريا، سُميت بالجمهورية العربية المتحدة، وطالب حينها فريق لبناني بانضمام لبنان إليها، فارتفعت أصوات تطالب بحياد لبنان، بعيداً عن صراع المحاور ولعبة الأمم.
لكن لم يحصل ذلك، وخرجت تسوية أميركية–مصرية جرى خلالها الاتفاق على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية والذي عقد قمة مع الرئيس عبدالناصر في خيمة على الحدود اللبنانية–السورية، نتج عنها تحييد لبنان، وليس حياده، إذ لا يوجد تفسير محدد لمصطلح الحياد، حيث تراه كل دولة وفق منظورها الجيو–سياسي وما تمليه المصالح الإقليمية والدولية أو الاقتصادية.
التوقيت
المفاجئ في طرح البطريرك الراعي ليس الدعوة إلى الحياد وهي دعوة قائمة منذ عقود، إنما التوقيت في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها لبنان على الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الاضطرابات السياسية الداخلية.
فربط سيد بكركي بين مسألة الحياد والوضع المالي–الاقتصادي الصعب الذي يعيشه لبنان، ومستويات الفقر والجوع والبطالة التي وصل إليها، يثير أكثر من علامة استفهام. إذ برأيه أن اللبنانيين يدفعون ثمن ارتباط طرف لبناني بحلفاء له، ويقصد بذلك انخراط «حزب الله» في المحور الإيراني–السوري، وهو ما يمنع المساعدات الخليجية والغربية عن لبنان، ويتركه معزولاً عربياً ودولياً.
ويؤكّد الراعي أن ابتعاد لبنان عن هذا الخيار السياسي، هو طريق الحل، غامزاً من قناة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بأنه أسير تحالفه مع «حزب الله»، وبأن الشرعية مرتهنة له، ويجب تحريرها منه.
ومن المعروف أن مطلب فكّ ارتباط الرئيس عون مع المقاومة، هو الكلام نفسه الذي يعبّر عنه المسؤولون الأميركيون حول إخراج «حزب الله» من الحكومة، باعتباره تنظيماً إرهابياً بجناحيه العسكري والسياسي، وفق توصيف الإدارات الأميركية المتعاقبة وعدد من الدول العربية والغربية التي تريد إبعاد لبنان عن محور المقاومة وطرد النفوذ الإيراني منه.
المشروع الأميركي
إن ما دعا إليه البطريرك الراعي من حياد لبنان، يصبّ بوضوح في المشروع الأميركي، وفق مؤيدين للمقاومة. فهم يرون أن سلاح الحزب هو المستهدف من كل ما يجري، وأن المساعي لتحقيق هذا المطلب الإسرائيلي سوف تشتد مع اشتداد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد، وذلك سواء عبر تطبيق القرار 1559، أو بعدوان إسرائيلي جديد كما حصل صيف 2006، أو بالتحريض الداخلي ضده بالتجويع والإفقار وشيطنة «حزب الله» وتحميله مسؤولية الأزمة المعيشية.
فاتهام الحزب –وليس إسرائيل– بمنع الرخاء والازدهار عن لبنان، سوف يتصاعد وقد يبلغ ذروته بتشكيل تحالفات سياسية جديدة لانتزاع السلطة كما حصل عقب اغتيال الحريري.
وإذا كان البطريرك صفير قد مهد لنشأة «14 آذار» في 2005، فمن غير المستبعد أن يتولى الراعي الدور نفسه هذه المرة.
يقول البطريرك الماروني إن الحياد جعل لبنان يعيش مرحلة ازدهار ونمو في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، متناسياً الصراع الأهلي الذي نشب عام 1958 حين لم تكن المقاومة موجودة أصلاً، كما فاته أن يذكر أزمة «بنك أنترا» عام 1966 وهي تشبه إلى حدّ ما الأزمة المالية–المصرفية في هذه المرحلة، ولم يكن لبنان حينها في صراع عسكري مع العدو الإسرائيلي.
كذلك، أن مرحلة إعادة الإعمار التي حصلت بعد اتفاق الطائف، تحت قيادة رفيق الحريري، تمت في الوقت الذي كانت فيه المقاومة تقاتل الاحتلال في شرق صيدا وجزين وغيرها، بينما كان اللبنانيون يعيشون مرحلة مريحة، بالرغم من عدوانين إسرائيليين حصلا في العامين 1993 و1996، وكان الهدف منهما هو إنهاء المقاومة التي كان نجمها قد بدأ يسطع وصولاً إلى ترسيخ وجودها عقب تفاهم نيسان 1996.
فكرة ميتة
فكرة الحياد التي يتم طرحها في كل فترة والتلطي وراءها، تحت شعار أن لبنان ليس مع الشرق ولا مع الغرب، بحسب الميثاق الوطني لعام 1943، والذي تخلى بموجبه المسيحيون عن التطلّع إلى الغرب والمسلمون عن المطالبة بالوحدة السورية أو العربية.
لكن هذا الطرح كان يبدو واقعياً قبل إنشاء الكيان الصهيوني وظهور أطماعه في لبنان، وفق مشروعه التوراتي لقيام «إسرائيل الكبرى». وقد منع كيان العدو، لبنان من استثمار مياهه في الوزاني والليطاني وراح يستبيح أراضيه دون مقاومة حيث كبّل اتفاق الهدنة الجيش ومنعه من الدفاع عن السيادة، وتُرك الأمر للأمم المتحدة، التي لم تمنع إسرائيل قط من الاعتداء على لبنان وتهجير شعبه وصولاً إلى قصف المخيمات الفلسطينية بعد ظهور الكفاح المسلّح وتمركز الفصائل في الجنوب عند الحدود مع فلسطين المحتلة. وفي عام 1968، لم تتوان إسرائيل عن نسف الطائرات المدنية في مطار بيروت، كما قامت باغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت عام 1973، حين كانت الدعوة إلى الحياد في الصراع العربي–الإسرائيلي، بأوجها، تحت شعار «قوة لبنان في ضعفه» والمطالبة بنشر قوات دولية لحماية الجنوب.
تجديد الانقسام
ما إن أعلن الراعي عن دعوته إلى الحياد، والتي قد يتراجع عنها نظراً لعدم تبنيه موقفاً ثابتاً إزاء المقاومة، حتى حصل انقسام حول دعوته التي اعتبرت أنها ليست في محلّها وفيها استهداف واضح للمقاومة التي تستند بقوتها إلى تحالف إيراني–سوري استفاد منه لبنان بتحرير أرضه وصموده أمام عدوان 2006.
فالحاجة إلى المقاومة تستمر قائمة مع استمرار الخطر الإسرائيلي، باحتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر، فضلاً عن أطماع الكيان الصهيوني بالثروة النفطية في المياه الإقليمية اللبنانية، والتي لا يمكن لجمها إلا بتوازن القوى، وقد بدأت إسرائيل فعلاً بالتنقيب في البلوك رقم 9 المسمى بـ«المنطقة الاقتصادية الخالصة»، بعدما أعطاها الموفد الأميركي فريدريك هوف 360 كلم2.
يرى داعمو المقاومة، بأن دعوة الراعي هي حملة تعبئة تهدف إلى استكمال ما بدأ قبل عقدين. إذ بعد أشهر قليلة من تحرير الجنوب في 25 أيار 2000، رفع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، شعار «لبنان هانوي أم هونغ كونغ»، داعياً بعد تحرير الجنوب إلى وقف أعمال المقاومة، وهو ما طالب به أيضاً البطريرك صفير الذي كان يروّج لمقولة «لا سلاح إلا بيد الجيش»، وهذا الشعار مازال مطروحاً في إطار المساعي المستمرة لتطويق «حزب الله» ودفعه نحو فك ارتباطه بإيران ومنعه من الانخراط في الصراعات الإقليمية.
فهل الدعوة إلى الحياد ليست إلا زوبعة في فنجان أم هي محاولة لإحياء تحالف سياسي واسع بوجه المقاومة يستند إلى تحميلها مسؤولية الحالة الاقتصادية المزرية التي يعيشها اللبنانيون؟
إن موضوع الحياد لا يخضع لتفسير واحد. فلكل طرف لبناني، منظوره السياسي والعقائدي الخاص تجاه المسألة. بل الدعوة إلى الحياد كانت مادة خلاف داخلية تسبق وجود «حزب الله» والجمهورية الإسلامية الإيرانية بعقود، حيث أن لكل الأطراف السياسية والطائفية في لبنان ارتباطاتها الخارجية وأدواراً في صراع الأمم تحت شتى العناوين السياسية والدينية.
إن الإصرار على الدعوة إلى الحياد سيعزز –بلا شك– الانقسامات في لبنان، ومن غير المستبعد أن يؤدي إلى إعادة طرح التقسيم والمناداة بالفدرالية. فالراعي بطرحه هذا –على الأقل– قسّم الرعية بين مؤيد ورافض، لكن ماذا بعد؟
Leave a Reply