وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بعد أيام قليلة من تكليف الرئيس التونسي قيس سعيد هشام المشيشي بتأليف الحكومة –وهو الخيار الذي أتى من خارج السياق، ذلك لأن اسم المشيشي لم يكن من بين الأسماء المطروحة من الأحزاب لتولي المنصب– سرق سقوط مقترح سحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي الأضواء من التكليف ومن المكلف.
مآل طبيعي للأمور بعد العدد اللافت للنواب الذين تغيّبوا عن جلسة سحب الثقة، التي اعتبرها البعض جلسة تاريخية، لأنها «أسقطت المؤامرة التي كانت تُحاك ضد الثورة»، وهؤلاء هم بطبيعة الحال من «النهضويين» الذين احتفلوا داخل قاعة البرلمان فور الإعلان عن سقوط مقترح تنحية الغنوشي.
وكانت أربع كتل نيابية هي «الديمقراطية» و«تحيا تونس» و«الكتلة الوطنية» و«الإصلاح» قد سعت إلى سحب الثقة من الغنوشي بتهمة سوء إدارة المجلس ومحاولة توسيع صلاحياته.
لكن وبالرغم من التوتر الذي ساد أجواء الجلسة، أخذت اللعبة الديمقراطية مجراها، وأعطت صورة إيجابية عن تجربة ديمقراطية فتية في بلد عربي، استطاع أن يدير أقطابه السياسيون صراعاتهم تحت سقف القانون، وبالاحتكام إلى الآليات الدستورية، فكانت الكلمة الفصل في هذه المعركة السياسية الطاحنة التي دارت رحاها تحت قبة البرلمان، لصندوق الاقتراع الذي أسفر عن فشل المطالبين بسحب الثقة من رئيس مجلس النواب الذي يمثل الأكثرية النيابية.
نتيجة هذه الجلسة سيكون لها من دون شك تردداتها في ساحة التحالفات السياسية اللاحقة، وستدفع القوى التي خاضتها إلى استخلاص العبر والدروس من مجرياتها للبناء عليها في المعارك المقبلة، ولا سيما أن البلاد تمر كسائر بلدان المنطقة بمخاض عسير، أقله على الصعيد الاقتصادي الذي تأزم وازداد تفاقماً بسبب جائحة كورونا، عدا عن التهديد الإرهابي لأمن البلاد الذي لم يغبْ ولا يفتأ يطل برأسه بين الفينة والأخرى، هذا فضلاً عن التجاذبات السياسية التي تلقي بظلالها على الأوضاع الداخلية بمختلف جوانبها.
في وقائع الجلسة
97 نائباً من معارضي «النهضة» صوتوا لصالح سحب الثقة من الغنوشي، من أصل 217 نائباً هو العدد الإجمالي للنواب، فيما كان سحب الثقة يحتاج إلى 109 أصوات على الأقل، وقد شارك في التصويت ١٣٠ نائباً في، وأُلغي ١٨ صوتاً وورقتان بيضاوان.
الجلسة التي عقدت الخميس الماضي، شهدت تقطعاً في سير أعمالها بسبب التوتر الشديد الذي ساد الأجواء. وكانت لجنة الإشراف على التصويت والتي تضم عدداً من النواب، قد اقترحت إلغاء الخلوة، وهي المكان المغلق المخصص للتصويت وإضافة ساعة إلى وقت الجلسة. كما رُفعت اللجنة الجلسة عشر دقائق إثر خلافات على الاقتراع السري ومدته الزمنية. وكان حزب «ائتلاف الكرامة» قد أعلن مقاطعة جلسة سحب الثقة من الغنوشي، وعدم المشاركة فيها أو التصويت عليها «تبرئةً لذمم نوابه من أي شبهات»، بحسب تعبيره.
وقال الائتلاف الذي يمتلك 19 مقعداً في البرلمان، إن التذرّع «بسوء تسيير راشد الغنوشي للمجلس علّة واهية وكاذبة»، وإن «كل جلسات المجلس وأعمال اللجان جرت بنحو طبيعي، باستثناء ما أفسدته كتلة بن علي»، في إشارة إلى كتلة «الدستوري الحر».
وعقب فشل سحب الثقة منه، تعهد الغنوشي بالبقاء على مسافة واحدة من الجميع، معتبراً أن لتونس مستقبلاً ما دامت متمسكة بالحرية. الغنوشي الذي يتزعم حركة النهضة والتي تمتلك أكبر كتلة نيابية (54 مقعداً) أشار إلى أن البرلمان هو نسخة مصغرة عن المجتمع التونسي التعددي، وأن الديمقراطية التي تنعم بها البلاد، حديثة وناشئة وتحتاج إلى مزيد من التمرين.
من هو رئيس الوزراء الجديد؟
رئيس الوزراء المكلف هشام المشيشي (46 عاماً) هو ابن محافظة جندوبة، وقد تولى خلال مسيرته بعض المناصب الوظيفية في الدولة، حيث كان وزيراً للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ السابقة، كما شغل منصب مدير ديوان وزير النقل عام 2014 والمنصب نفسه في وزارتي الشؤون الاجتماعية والصحة، كما سبق أن عيّنه رئيس الجمهورية قيس سعيد في شباط (فبراير) الماضي في منصب «مستشار أول» لرئيس الجمهورية للشؤون القانونية.
والمشيشي هو أيضاً رجل قانون بامتياز وحاصل على الأستاذية في الحقوق والعلوم السياسية بتونس، وعلى شهادة ختم الدراسات في المرحلة العليا للمدرسة الوطنية للإدارة، وعلى الماجستير في الإدارة العمومية من المدرسة الوطنية للإدارة في ستراسبورغ بفرنسا.
ويعُد رئيس الحكومة المكلف مقرباً من دوائر الرئيس قيس سعيد، وموضع ثقته، وثمة كلام يتردد خلف الأبواب المغلقة عن أن للرجل موقفاً غير إيجابي تجاه حركة النهضة.
المهمة الصعبة
مهمة المشيشي تبدو غير سهلة بالنظر إلى الظروف الدقيقة التي تعيشها الساحة التونسية، وخياراته تبدو محدودة، ولا سيما بعد سقوط مساعي سحب الثقة من الغنوشي في مجلس النواب. فالرجل بات ملزماً بمسايرة حركة النهضة أكثر من ذي قبل، وهي التي تتهمها شريحة لا بأس بها بأنها تقف حجر عثرة أمام تقدم البلاد، وأنها ذات أجندة «أخونجية».
فالمشيشي بات اليوم ملزماً بتأليف حكومة تضم الأحزاب الصغيرة، أو الخضوع لتحالف النهضة، أو عليه ابتداع توليفة ما.
كلٌّ من هذه الخيارات الثلاثة لا بد وأن يواجه من يعترض عليه أو حتى يحاربه، من هنا تقول مصادر مطلعة لـ«صدى الوطن» إن المشيشي سيمشي في حقل من الألغام كي يستطيع بلوغ الهدف وتأليف حكومة، رغم أن أحداً من المكونات السياسية لم يبدِ اعتراضاً صريحاً على تكليفه، حتى من حركة النهضة نفسها التي أعلنت انفتاحها على الرجل، بالرغم من الحملات التي شنتها صفحات مقربة منها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تندرج في إطار الرسائل غير المباشرة.
ومما لا شك فيه، بأن ما حدث الخميس الماضي داخل أروقة مجلس النواب التونسي سيخلط الأوراق وقد ينتج تحالفات جديدة، ربما ترسم خارطة طريق للحكومة الجديدة، للسير في خطة إنقاذ البلاد من أزماتها.
تغييرات بنيوية في النظام
يعتقد كثيرون أن اختيار الرئيس التونسي لهشام المشيشي لرئاسة الحكومة والذي كان مستشاراً لديه في القصر الرئاسي، يأتي تماشياً مع طموحات سعيد لتغيير النظام السياسي من برلماني معدل إلى رئاسي معدل، إضافة إلى سعيه لتغيير طريقة انتخاب النواب من الاقتراع للقوائم إلى الاقتراع للأفراد.
ويعتبر وصول المشيشي إلى رئاسة الحكومة خطوة مفصلية على طريق تنفيذ رؤية رئيس الجمهورية، ويعبّد أمامه الطريق لدخول المنافسة على النفوذ داخل البرلمان من الباب الواسع، كيف لا وهو الذي يملك حق حل البرلمان في حال فشل في تأليف الحكومة، وهو ما يهدد النهضة بإمكانية خسارتها الأغلبية النيابية في حال إجراء انتخابات مبكرة.
Leave a Reply