كمال ذبيان – «صدى الوطن»
محاولة إسقاط الحكومة اللبنانية التي يرأسها الدكتور حسان دياب، سبقت انفجار مرفأ بيروت بأسابيع عدة، وقد خرجت من أهل الحكومة أنفسهم، عندما انبرى نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي إلى المطالبة برحيلها، وإعادة «لمّ الشمل» بعودة سعد الحريري لرئاسة مجلس الوزراء، علماً بأن الفرزلي ينتمي إلى «تكتل لبنان القوي» الذي يرأسه جبران باسيل.
جاء موقف الفرزلي من الحكومة مفاجئاً، قبل أكثر من شهر ونصف، ولم يكن قد مضى على تشكيلها أكثر من خمسة أشهر، وقد جاءت استقالة وزير الخارجية ناصيف حتّي قبل أيام من انفجار المرفأ، في إطار إقليمي–دولي، يرى بضرورة إخراج نفوذ «حزب الله» من الدولة ويتهم حكومة دياب بأنها «حكومة حزب الله».
ماكرون واستقالة الحكومة
وقع الانفجار–الزلزال، مشكلاً كارثة، لا بل نكبة لأحياء واسعة من بيروت، فهزّ الرأي العام العربي والدولي، وحضر مباشرةً إلى لبنان، وبعد أقلّ من 48 ساعة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارة تضامنية وإنسانية مع البلد الذي أنشأته فرنسا قبل قرن من الزمن، في مطلع أيلول 1920.
البلد الذي انتدبت عليه فرنسا لعقدين ونيف، لها في كل مؤسسة من مؤسساته بصمة، فالدستور اللبناني الذي أعلن عام 1926، منسوخ من دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة وقد تم تعديله جزئياً في العام 1943. وتعتبر باريس، لبنان، دولة حاضنة للفرنكوفونية، ومازالت اللغة الفرنسية فيه أساسية، مع تقدّم الإنكليزية، عدا عن الكثير من العوامل الأخرى التي تجعل فرنسا في عيون بعض اللبنانيين، لاسيما الموارنة منهم، بأنها «الأم الحنون».
وقد جاءت زيارة الرئيس الفرنسي، محمّلة برسالة دعم للشعب اللبناني في نكبته، حيث تبنّى ماكرون مطالب الحراك الشعبي الذي اندلع في 17 تشرين الأول الماضي، والداعية للإصلاح ومحاربة الفساد في مؤسسات الدولة واستعادة المال المنهوب وإعادة تكوين السلطة، بعد أن فقد مَن توالوا على حكم لبنان، ثقة غالبية المواطنين، رغم إعادة إنتاجهم في كل انتخابات نيابية.
وقد حمّل ماكرون، الشعب اللبناني مسؤولية اختيار الطبقة الحاكمة والتغيير عبر صناديق الاقتراع، مؤكداً في الوقت نفسه احترامه لقرار الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في الدورة الانتخابية الأخيرة قبل عامين، والتي أنتجت البرلمان الحالي. لذلك، دعا ماكرون رؤساء الكتل النيابية وأحزابها، إلى لقاء في مقر السفارة الفرنسية في بيروت، لعرض معاناة اللبنانيين ومطالبهم بالإصلاح الذي لا يمكنهم التهرّب منه، مشيراً إلى أن بلاده عقدت قبل عامين مؤتمر «سيدر» لمساعدة لبنان مالياً واقتصادياً واشترطت حصول الإصلاح.
ووجه ماكرون كلامه إلى القيادات الحاكمة، محذّراً من أن عدم توجههم نحو الإصلاح، سيؤجج غضب الشارع الذي لن يسكت عنهم بعد الآن، داعياً الزعامات اللبنانية إلى نبذ الخلافات بينهم لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تضع على عاتقها مهمة الإصلاح، فأعطى الرئيس الفرنسي –بذلك– إشارة باستقالة الحكومة الحالية، والعمل على تشكيل حكومة جديدة لإنقاذ البلاد المثخنة بالأزمات.
دياب فهم الرسالة
قرأ الرئيس دياب، دعوة الرئيس ماكرون، إلى حكومة وحدة وطنية، بأنه دعوة إلى استقالة حكومته، وهو توجه افتتحها الوزير حتّي –صديق فرنسا التي عمل فيها مديراً لمكتب جامعة الدول العربية. كما أن زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان، واصطدامه برئيس الحكومة –قبل الانفجار– واتهامه بعدم تحقيق أي من الإصلاحات المطلوبة، كانت رسالة فرنسية واضحة تشي بعدم رضى باريس عن الحكومة المحاصرة عربياً ودولياً.
هكذا، استقال حتّي دون مقدمات، وحمّل في بيان استقالته، الحكومة بأنها لم تحقق شيئاً، على عكس ما أعلن رئيسها دياب بأنها أنجزت 97 بالمئة من وعود البيان الوزاري.
وبعد أقل من 24 ساعة على مغادرة ماكرون، حاول دياب احتواء العاصفة بإعلان بقاء الحكومة لمدة شهرين للإشراف على انتخابات نيابية مبكرة، تنتج نواباً يعكسون الإرادة الشعبية ومطالب المواطنين، ولكن المقترح الذي قوبل بمعارضة سريعة من قوى سياسية عديدة، لم يصمد سوى ساعات معدودة ليعلن دياب بنفسه، يوم الاثنين الماضي، عن استقالة حكومته التي لم تعمر سوى بضعة أشهر.
الانتخابات المبكرة مرفوضة
دعوة الرئيس دياب إلى انتخابات نيابية مبكرة، أغضبت رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، باعتبار أن الموضوع ليس من صلاحيات الحكومة، ولم ترق الفكرة أيضاً لرئيس الجمهورية ميشال عون الذي رأى في الدعوة تمهيداً للمطالبة باستقالته، مع إقدام عدد من النواب على تقديم استقالاتهم، حيث تم قبول استقالة ثمانية نواب من المجلس المؤلف من 128 عضواً.
وأمام حالة عدم اليقين هذ، تقرّر التضحية بالحكومة التي كان بعض أعضائها قد بدأوا بتقديم استقالاتهم، فقرر الرئيس دياب الاستقالة عقب يوم من المشاورات، بعد أن رأى أن أركان الطبقة الحاكمة تحالفوا ضده، ومنهم من هو ممَثّل في حكومته، أو معارض لها، فخرج دياب إلى عالم تصريف الأعمال، رامياً الكرة في ملعب السياسيين الذين وصفهم رئيس الحكومة في بيان الاستقالة، بأنهم منظومة فساد أقوى من الدولة.
تعاطف مع دياب، جزء كبير من الشعب اللبناني، الذي لا يحمّل الحكومة الحالية مسؤولية التدهور الذي وقع فيه لبنان. إذ لم تتمكّن الحكومة من تنفيذ أي من خططها للتعافي المالي، لاسيما مع ظهور وباء «كورونا» بعد ولادتها، وهي التي تمكّنت من احتوائه نسبياً إلى أن باغتها انفجار المرفأ ليكشف عنها الغطاء السياسي المتهاوي أصلاً.
الانفجار، الذي جدّد التظاهرات في الشارع، جرت أيضاً محاولات مكشوفة لاستغلاله ضد حكومة دياب كما ضد رئيس الجمهورية باعتبار أنهما تلقيا تقريراً من أمن الدولة في 20 تموز (يوليو) الماضي، حول وجود مواد خطرة وشديدة الانفجار في العنبر رقم 12، وقد تمّ تجاهل التقرير، كما فعلت حكومات سابقة ووزراء أشغال وأجهزة أمنية وجمارك وإدارة مرفأ، مع عشرات التقارير المماثلة عن وجود نحو 2750 طنّاً من مادة «نيترات الأمونيوم» في المرفأ، مما يشكل خطراً كبيراً على بيروت وضواحيها، ولكن الإهمال والتقصير والتواطؤ والفساد المتجذر في مؤسسات الدولة، لم يحرك ساكناً لهذه القنبلة الموقوتة التي ظلت قابعة على كتف العاصمة بيروت لمدة سبع سنوات حتى انفجرت بوجه الجميع لتكشف عن اهتراء مؤسسات الدولة وفساد المسؤولين فيها، من أعلى الهرم إلى أسفله، على مدار عقود وسنوات.
ما بعد الاستقالة
ومع استقالة الحكومة، التي لم يكن دياب يرغب بها، إلا أن حجم الانفجار وتداعياته فرض عليه فعل ذلك، لاسيما بعد أن تخلّى عنه حلفاؤه المفترضون، وعلى رأسهم برّي الذي استدعى الحكومة إلى جلسة استجواب ومساءلة، وربما سحب الثقة منها، وهو ما رأى فيه رئيس الحكومة محاولة صريحة لإسقاط حكومته في مجلس النواب، فاستبق الجلسة وقدّم استقالته، واضعاً الكتل النيابية أمام مسؤولياتها.
فقد أكّد دياب أنه لا يقبل الاستمرار برئاسة حكومة تصريف أعمال إلى أجل غير مسمى، مطالباً الأفرقاء بتسمية رئيس جديد للحكومة وتشكيلها بأسرع وقت ممكن، لأن لبنان لا يمكنه أن يتحمّل ترف الانتظار، لاسيما بعد كارثة انفجار المرفأ، وما تتطلبه المرحلة من إعادة إعمار وإغاثة، فضلاً عن مواجهة الأزمة المالية.
إذ بات على القوى السياسية والكتل النيابية، الاتفاق على رئيس جديد للحكومة، وقد برز اسم سعد الحريري كمرشح مفضل للمنصب، وهو الذي غادره مستقيلاً الخريف الماضي، حيث اشترط لعودته، تشكيل حكومة مستقلين وأصحاب اختصاص، واستبعاد «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» خارجها، تجاوباً مع مطلب أميركي–سعودي تحديداً.
غير أن عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، غير مضمونة، لأنه لم يعد المعتمد الوحيد سعودياً، كما أنه يتنافس داخل عائلته مع شقيقه بهاء الذي بات يمتلك نفوذاً متزايداً في قواعد «تيار المستقبل» حيث أعلن العديد من أعضاء التيار انضمامهم إليه، فضلاً عن شرائح كبيرة في الشارع السّنّي.
وإذا كانت فرص عودة الحريري بشروطه المرفوضة من «الثنائي الشيعي»، صعبة جداً، فإن رؤساء الحكومات السابقين، تبدو حظوظهم شبه معدومة، فيما تتوجّه أنظار البعض إلى السفير نواف سلام الذي طُرح اسمه سابقاً، لكنه قوبل بتحفظ من «حزب الله» وحلفائه، ومنهم «التيار الوطني الحر» الذي كسر الجرة مع سعد الحريري إثر انقلاب الأخير على التسوية الرئاسية بضغط سعودي.
وأمام تعقيدات المشهد، والشروط والشروط المضادة، تبرز دعوة فرنسا الباحثة عن دور قيادي على الساحة اللبنانية، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة، وهو ما يعني مبدئياً السماح بوجود «حزب الله» فيها، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والسعودية، ولكنه يبقى سبيلاً لحلٍّ وسط في الصراع القائم على السلطة في لبنان.
إن خروج دياب من رئاسة الحكومة لا يعني عودة سعد الحريري، كما أن تشكيل حكومة وحدة وطنية، مهمة صعبة دونها عقبات كأداء، إن لم تكن مهمة مستحيلة.
Leave a Reply