كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مئة عام قد مرت على إنشاء دولة لبنان الكبير بإعلان من المندوب الفرنسي الجنرال غورو من مقره في بيروت (قصر الصنوبر).
وبعد قرن من الزمن، مازال بعض اللبنانيين من دعاة الانعزال، «يعيشون اللحظة»، وكأن هذه الدولة قد أنشئت لهم، بفضل جهود البطريرك حويّك و«الأم الحنون» فرنسا التي اقتطعت من سوريا الكبرى، دولةً للموارنة ضمن حصّتها من المشرق العربي الذي اقتسمته مع بريطانيا وفق اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، عقب انهيار السلطنة العثمانية.
فشل الدولة
هذه الدولة–الكيان، التي نشأت بقرار استعماري، ولم يقتنع بها جزء كبير من اللبنانيين، إذ رفض سكان الأقضية الأربعة، خارج «جبل لبنان»، الانضمام إليها، مطالبين بأن يكونوا جزءاً من الوحدة السورية.
لكن هذه الدولة التي قامت واستقلت وفق تسوية تجلّت عام 1943 بتدخل بريطاني، لم تتمكن قط من إقامة المؤسسات وتطبيق القوانين، وهي التي تأسست على مبدأ طائفي لم تتمكن من التخلص منه رغم الحرب الأهلية الدامية واتفاق الطائف الذي زاد الطين بلة بترسيخ الطائفية والمذهبية، وإن طالب بإلغائها على الورق.
فعقلية إدارة المزرعة وتنازع المغانم والحصص، طغت على ما سمي «رجال هذه الدولة»، التي قامت على نظام طائفي وفق المادة 95 من الدستور، باعتبار أن الطائفية حالة مؤقتة، ليتبين أنها داء لا يمكن التعافي منه وقد نخر مفاصل الدولة من أعلى الهرم إلى أسفله.
الطائفية
علّة الطائفية التي نشأت على أساسها دولة لبنان قبل قرن من الزمن، حالت دون قيام دولة حقيقية تتساوى فيها حقوق المواطنين أمام القانون، بل شكلت أساساً لاستباحة القانون وفق مصالح الفئات السياسية والحزبية والطائفية، فعمّ الفساد وتعاظم قدر الفاسدين وأقصي كل من لم يستطع مجاراة قوانين اللعبة الداخلية التي تتطلب من أجل البقاء، الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من مقدرات الدولة ومغانم السلطة.
وفي الواقع، عاش اللبنانيون تجارب وأزمات متلاحقة، أثبتت أن الفساد هو من مقتضيات لعبة السلطة القائمة في لبنان. فقد سقط أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال بشارة الخوري عام 1952، بعصيان مدني، نفّذته قوى سياسية وحزبية تحت اسم «الجبهة الاشتراكية الوطنية»، ومنذ ذلك الحين تبين أن النظام الطائفي كفيل بتفتيت الدولة ومنع قيامها، عبر إثارة الفتن والتحريض على أساس ديني من أجل حماية الزعامات في الداخل وتلقف الأجندات من الخارج. وقد عايش اللبنانيون، كل عقد تقريباً، أزمات وصراعات وحروباً أهلية، لم تنفع التسويات في منع تكرارها، ومنها اتفاق الطائف الذي تضمّن بنوداً للإصلاح السياسي والإداري وإلغاء الطائفية السياسية، ولكنه في حقيقة الأمر أدخل الدولة في نفق لا يمكن الخروج منه، بجعل سلطة القرار السياسي بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، أو بالأحرى «مجلس الطوائف»، حيث يتوجب مراعاة تمثيل الطوائف الأساسية في تشكيلة المجلس الذي يحظى أعضاؤه بصلاحية التصويت، وفق نظام لا تجد له مثيلاًً في العالم.
لبنان اليوم
اليوم، وبعد ثلاثة عقود على اتفاق الطائف، وقرن على ولادة «لبنان الكبير»، فإن الأزمة السياسية والدستورية تشتد، ومعها يزداد الانهيار إلى حدّ وصف لبنان بـ«الدولة الفاشلة»، بعد أن نضبت أموال الخزينة المنهوبة، وتراكم الدين العام إلى نحو مئة مليار دولار، بخدمة فوائد متصاعدة تناهز 6 مليارات دولار سنوياً، بينما وصلت نسبة الفقر في البلاد إلى نحو 55 بالمئة مع توقعات بارتفاعها خلال الأشهر القادمة.
إذ أن «مصرف لبنان» الذي دأب على طمأنة اللبنانيين عن وضع الليرة ونجاعة هندساته المالية، أعلن بنفسه عن عدم قدرته على مواصلة دعم المواد الأساسية كالمحروقات والقمح والأدوية والسلة الغذائية، مشيراً إلى أن لديه احتياطاً نقدياً يبلغ نحو ملياري دولار، وهو يكفي لثلاثة أشهر، وبعدها ستقع الكارثة الإنسانية، ويدخل لبنان من مرحلة القلّة إلى مرحلة الجوع، فيما لا يزال ركام انفجار مرفأ بيروت الكارثي يرخي بظلاله على المشهد العام، بعد استشهاد نحو مئتي مواطن وجرح أكثر من ستة آلاف، وتدمير آلاف المباني والمنازل والشقق وتهجير نحو 300 ألف مواطن.
فلبنان بحاجة إلى ما بين 10 إلى 15 مليار دولار، لإزالة آثار الانفجار الغامض، وهو أصلاً بحاجة إلى أضعاف هذا المبلغ لتفادي الإفلاس فيما تغرق البلاد بأزمات سياسية ومالية واقتصادية واجتماعية، مع بقاء «الحراك الشعبي» في الشارع ولو متقطعاً ودون أفق واضح.
وكأن كل هذه الكوارث لا تكفي لتظهر خلال الآونة الأخيرة توترات واشتباكات وتفجيرات أمنية متنقلة بين المناطق، والتي يأخذ بعضها طابعاً سياسياً وطائفياً ومذهبياً، وسط مؤشرات على عودة ظهور المجموعات الإرهابية في الجريمة التي وقعت في بلدة كفتون بقضاء الكورة، وذهب ضحيتها ثلاثة أفراد من شرطة البلدية بعدما لاحقوا سيارة مجهولة من دون لوحة تجول في البلدة ليلاً، ليواجهوا بوابل من الرصاص.
وقد كشفت التحقيقات الأمنية الأولية، عن انتماء أعضاء المجموعة إلى تنظيم «داعش» الإرهابي، وقد سبق أن حذّر وزير الداخلية محمد فهمي، من اعتقال أشخاص يحملون الجنسية التركية، ينقلون أموالاً لتوزيعها في الشمال، الذي تنمو فيه الجماعات الدينية المتطرفة، وهذا الموضوع يقلق الأجهزة الأمنية والقوى العسكرية، كما الشعب اللبناني، من مخاطر عودة الحرب الأهلية التي يجري تخصيب الأرض لها عبر حملات إعلامية مغرضة ضد المقاومة، تتماشى مع ما يروّج له العدو الإسرائيلي، ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو عن وجود مخازن أسلحة وأنفاق لـ«حزب الله» في مرافق لبنانية، في تبنٍّ صريح لما يروّج له العدو الإسرائيلي، ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو، عن وجود مصانع ومخازن أسلحة في المرافق المدنية مثل المطار والمرفأ.
وقد وجدت إسرائيل، في لبنان، من يتبنّى الأضاليل الصهيونية حول انفجار مرفأ بيروت، ويدعو إلى إزالة مخازن السلاح المزعومة من الأحياء السكنية، وآخرهم البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، علماً بأن التحقيقات الأولية أظهرت أن المواد التي انفجرت في العنبر رقم 12، هي «نيترات الأمونيوم»، وأنها مخزنة في المرفأ منذ عام 2013، وقد وصلت إلى لبنان بطريقة مريبة وتُركت طوال تلك المدة بسبب الإهمال والفساد في أجهزة الدولة المترهلة، فيما لايزال القضاء العدلي يحقق بالجريمة التي لا يستبعد أن تكون متعمدة.
الحكومة ولعبة الأمم
أمام الواقع المأساوي الذي يعيشه اللبنانيون اليوم، تستعد البلاد لدخول جولة جديدة من الصراع السياسي لتشكيل حكومة جديدة، فيما لاتزال السلطة الحاكمة، تتعاطى مع التحديات الوجودية، وكأن شيئاً لم يحدث.
فمازالت العقلية الطائفية والتحاصصية نفسها، تعالج ملف تشكيل الحكومة، بعد استقالة الرئيس حسان دياب، فيما لايزال الخلاف قائم حول مَن سيكلف برئاسة الحكومة الجديدة، إذ يتقدم اسم سعد الحريري، عند «الثنائي الشيعي» –حركة «أمل» و«حزب الله»– وهو مرشحهما منذ استقال في المرة الماضية، لكن دون تلبية شرطه بتشكيل حكومة حيادية من دون «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل، و«حزب الله».
ويرفض رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، شروط الحريري، وقد لجأ إلى تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة، للاتفاق على اسم رئيس الحكومة الجديد، في وقت تطرح فيه أسماء شخصيات من خارج نادي الرؤساء، تشبه حسان دياب، لكن الرئيس برّي، يرفض تكرار التجربة، وهو ما يعرقل الدعوة للاستشارات النيابية، بعد أن أخرج رئيس مجلس النواب، نفسه من الوساطة حين تبلّغ رفض وليد جنبلاط للحريري، ومثله رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، في موقفين اعتبرهما البعض إشارة سعودية برفض أية حكومة تضم «حزب الله».
في المقابل يرفض «حزب الله» أن يكون خارج الحكومة خشية تكرار تجارب سابقة لطعن المقاومة في ظهرها، وقد طالب الحزب بتشكيل حكومة وحدة وطنية، تتناغم مع طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بينما تضغط مجموعات الحراك الشعبي لتشكيل حكومة من خارج الطبقة السياسية، يرأسها نواف سلام الذي يقال إنه مرشح واشنطن.
وأمام تعقيدات الصورة، لا شك أن ولادة الحكومة الجديدة، ستتأخر، ربما إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في مطلع تشرين الثاني المقبل، لأن تشكيلها –كما هو معروف على مر العقود– جزء لا يتجزأ من لعبة الأمم ومصالحها، بينما اعتاد اللبنانيون على الحلول والتسويات الخارجية التي تُفرض عليهم، منذ قيام دولة لبنان الكبير.
Leave a Reply