ولادة حكومة أديب متعسّرة .. ومبادرة ماكرون لم تسقط بعد
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
اختصر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، مستقبل لبنان ومصيره، بأنه سائر إلى جهنّم، وهو التوصيف الحقيقي الذي يعيشه اللبنانيون في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة أفقدتهم مدخراتهم. إذ لن يطل شهر شباط القادم، إلا وتكون أموالهم في المصارف، سواء بالليرة أو العملات الأجنبية، قد تبخّرت، بينما تستمر أسعار السلع بالارتفاع وصولاً إلى 400 بالمئة عما كانت عليه قبل سنة واحدة، وقد فقدوا 80 بالمئة من مدخولهم بسبب انهيار سعر صرف الليرة. ويأتي كل هذا في وقت يستمر فيه النظام السياسي القائم على الطائفية والمذهبية بحرق البلاد، ولا من إطفائي.
عون الصريح
كان الرئيس عون صريحاً مع شعبه الذي لم يعد «عظيماً»، بل يائساً ومحبطاً ومستعداً للهجرة أكثر من أي وقت مضى من تاريخه الحافل بالحروب والمجاعات والبطالة.
عون صارح الشعب حول أسباب الأزمة التي تعصف بلبنان منذ أكثر من عام، والتي تمتد جذورها إلى عقود، مؤكداً أن النظام القائم على الطائفية لم يعد صيغة صالحة لإدارة البلاد، وأنه لا بدّ من العبور إلى الدولة المدنية القائمة على المواطنة.
لكن آلية التغيير هذه لا تزال غامضة، رغم أن اتفاق الطائف قد نص على تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، لكن هذا البند لم يفعّل قط، منذ انتهاء الحرب الأهلية. إذ لم يعد خافياً أن علّة لبنان الأولى هي الطائفية التي تسير بالبلاد نحو جهنم، حيث يتمترس خلفها كل فريق سياسي ليملي شروطه تحت شعار المشاركة في القرار بحسب الدستور. وهذا مطلب دائم في لبنان من كل الطوائف التي تتذرّع بأن حقوقها مغبونة أو مهضومة أو مهمّشة، وهذا ما هو يتكرر مع الأزمة الحكومية الراهنة، حيث تدور المفاوضات في حلقة مفرغة دون أن يتمكّن الرئيس المكلّف مصطفى أديب من تقديم تشكيلته إلى رئيس الجمهورية الذي انتقد أسلوب أديب، لرفضه التواصل مع الكتل النيابية والوقوف على رأيها بشأن الحكومة، وهي التي سمّته وستمنحه الثقة أو تحجبها عنه في البرلمان.
بيت الوسط
من أبرز العراقيل التي برزت أمام تشكيل الحكومة، الشروط التي وضعها «بيت الوسط» حيث يجتمع فيه رؤساء الحكومة السابقون: سعد الحريري، فؤاد السنيورة، نجيب ميقاتي وتمام سلام، الذين يملون على الرئيس المكلّف مواصفات وأسماء التشكيلة الوزارية، مما ساهم في شلّ حركة أديب الذي بات أسير ما يمليه عليه هؤلاء.
ويصر نادي رؤساء الحكومات السابقين المحسوبين على قوى «14 آذار»، على استئثار أديب بصلاحية تشكيل الحكومة استناداً إلى الدستور الذي أناط بالرئيس المكلف مهمة اختيار الوزراء، وهو ما جعل أديب يتجاهل التواصل مع الكتل النيابية بذريعة تشكيل حكومة مستقلّة من اختصاصيين، متناسياً أنه هو نفسه ينتمي إلى «جمعية العزم» التي يرأسها نجيب ميقاتي، وأن الحكومة –دستورياً– يجب أن تمثل الأغلبية لكي تنال ثقة البرلمان، في بلد يحكمه نظام طائفي قائم على المحاصصة.
التوقيع الشيعي
وفي غمرة الشروط والشروط المضادة، فإن الطائفة الشيعية بممثليها السياسيين والروحيين، تمسكت بمطلب الحصول على وزارة المال، للحفاظ على حصتها في السلطة التنفيذية عبر «التوقيع الثالث» على المراسيم، إلى جانب رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السُّنّي، فتكون شريكة في الحكم بحسب محاضر اتفاق الطائف والميثاق الوطني.
وقد شكل موقف «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة أمل)، العقدة الأبرز أمام تشكيل حكومة أديب، لأن غياب مكوّن طائفي أساسي عن الحكومة يطعن بميثاقيتها وفق ما جاء في مقدمة الدستور، وهو حق محفوظ لكل الطوائف والمذاهب الرئيسية، ولطالما تم توزيع الوزارات والوظائف على أساس طائفي ومذهبي، بحسب العُرف وليس الدستور الذي لا ينص أصلاً على أن يكون رئيس الحكومة سنياً أو أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، بل يشير فقط إلى المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
وكان بند في اتفاق الطائف قد دعا إلى إلغاء طائفية الوظيفة، والحفاظ على المناصفة، كما في إصدار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، إلا أن ذلك لم يحدث قط، لا بل تمّ حصر الوزارات السيادية، وهي الداخلية والدفاع والخارجية والمال بطوائف أربع، الموارنة والسُّنّة والشيعة والأرثوذكس، وقد جاء طرح «مداورة» الحقائب الأربع بين الطوائف، للخروج من أزمة إسناد وزارة المال للشيعة أو حصر أية وزارة بطائفة ما فتصبح عرفاً لها. وهو موقف يتبناه رئيس الجمهورية، لكن أديب يرفض أن يمنح أياً من تلك الحقائب السيادية للثنائي الشيعي، علماً بأنه تم سابقاً التخلي عن بعضها لصالح وزراء من طوائف ومذاهب أخرى في إطار تسهيل ولادة حكومات سابقة.
رئيس الجمهورية حاول إقناع كل من كتلتي «التنمية والتحرير»، و«الوفاء للمقاومة»، بالتخلي عن المالية لاسيما في هذه الظروف الدقيقة التي تمرّ بها البلاد على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على أن تكون الوزارة بعهدة وزير يسميه عون نفسه، قبل أن يقترح الحريري أن يتولى وزير شيعي مستقل وزارة المالية «لمرة واحدة فقط، كي لا يصبح ذلك عرفاً».
وقد لاقت موافقة الحريري على أن تكون وزارة المالية بعهدة وزير من الطائفة الشيعية، ترحيباً فرنسياً استثنائياً، قُرن بالإشارة إلى ضرورة تأليف الحكومة «الآن». لكن بيان رئيس الجمهورية أعاد التذكير بأن عقدة «المالية» ليست الوحيدة، وإن حجبت خلفها العقد الأخرى. وأبرز هذه العقد التمثيل المسيحي. إذ لن يقبل الرئيس عون توقيع مرسوم تأليف حكومة لم يوافق مسبقاً على أسماء الوزراء فيها، وتحديداً منهم المسيحيون.
خطب الراعي
ومما زاد من حدة التوتر الداخلي في لبنان، والذي اتّخذ طابعاً وجودياً، خطب البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي رفض مطالبة الشيعة بوزارة المال، متهماً إياهم بالاستقواء بسلاح «حزب الله» مستتبعاً حملته الداعية إلى «حياد لبنان» والتخلص من سلاح المقاومة.
بل لم يتوان الراعي عن تحميل المقاومة مسؤولية الوضع المتردّي الذي وصل إليه لبنان، وقد دفع الموقف الأخير لرأس الكنيسة المارونية، بالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى الردّ عليه، كما من المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان، لتظهر بوادر صراع طائفي ينذر بعواقب خطيرة.
فدخول بكركي على خط تشكيل الحكومة، والرد عليه من رجال دين شيعة، لا يطمئن أبداً، بعد أن طرحت الطائفة الشيعية نفسها شريكاً، وهي تعتبر وزارة المال أحد المواقع التي تضمن إشراكها في القرار، مادام النظام مازال قائماً على الطائفية، ولم تلغَ المادة 95 من الدستور. وما يسري على الطوائف والمذاهب، يجب أن يكون عادلاً، والطائفة الشيعية هي شريكة، كما كانت الطائفة السُّنّية تطالب قبل اتفاق الطائف بشراكة فعلية في السلطة التنفيذية، التي وضعت في مجلس الوزراء مجتمعاً، ولم تعد في يد رئيس الجمهورية كما كانت قبل تعديل الدستور الذي منح الشيعة رئاسة مجلس النواب لكن ذلك لا يجعلهم شركاء في السلطة التنفيذية، ولو كانوا فيها، ويصوتون على قراراتها. أما توقيع وزير المال فيتساوى مع رئيسي الجمهورية والحكومة، ولذلك لن يتخلى عنه الثنائي الشيعي بسهولة.
وفي خضم النقاشات الداخلية حول تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان، جاء خطاب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليعلن بلا مواربة عن رفض الرياض لأي دور لـ«حزب الله» في مؤسسات الدولة اللبنانية، مشدداً على أن «الشعب اللبناني الشقيق لن ينعم بالاستقرار والرخاء إلا بتجريد حزب الله من السلاح».
جمهورية جهنّم
هذه المطالب والشروط، تضع لبنان أمام مهب الريح وسط عواصف دولية وإقليمية تهب على المنطقة، وقد تقتلع لبنان منها. فقد أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، بأن دولة لبنان إلى زوال، وهو ما كرّره الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عندما أشار إلى أن لبنان الكبير انتهى، وهذا غيض من فيض الإشارات التي تشي بأن لبنان مقبل على صراع أهلي تحدّث عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي مازال يسعى إلى تفعيل مبادرته المجمّدة عند مطالب القوى السياسية اللبنانية، التي لم تبدِ رغبة في تقديم حلول والقبول بتسوية.
وقد أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية الثلاثاء الماضي، بياناً دعت فيه المسؤولين اللبنانيين للتوصّل «بدون تأخير» إلى اتّفاق على تشكيل حكومة لإخراج البلاد من أزمتها. وجاء في بيان وزارة الخارجية «تأسف فرنسا، في هذا الإطار، لعدم وفاء المسؤولين اللبنانيين إلى حدّ الآن بالتعهّدات التي قطعوها في الأول من أيلول للرئيس الفرنسي بتشكيل الحكومة في غضون أسبوعين. وتابع البيان بأنه يتعيّن على القوى السياسية اللبنانية أن تختار بين الإصلاح وانهيار البلاد.
ومنذ انفجار مرفأ بيروت المروع في 4 آب الماضي، تمارس فرنسا ضغوطاً على القوى السياسية لتشكيل حكومة تنكبّ على إجراء إصلاحات عاجلة مقابل حصولها على دعم مالي دولي لانتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية وتعيد إطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
لكن مع تعثر مبادرة ماكرون عند أول استحقاق تستمر الأطراف الداخلية في رهاناتها على التحولات الدولية والإقليمية، فالبعض ينتظر التحوّلات المرتقبة مع تسارع التطبيع مع العدو الإسرائيلي، فيما البعض الآخر ينتظر نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، بينما يتطلّع آخرون إلى فرض مزيد من العقوبات الأميركية على إيران وحلفائها، ومنهم «حزب الله» وحلفائه في لبنان. أما لبنان فأصبح «جمهورية جهنّم» كما قال الرئيس عون.
Leave a Reply