كمال ذبيان – «صدى الوطن»
ليست المرة الأولى التي يدخل فيها لبنان بمفاوضات مع العدو الإسرائيلي، فهو مرتبط معه بهدنة منذ العام 1949، بعد اغتصاب فلسطين وتهجير شعبها، وكان للبنان نصيب في أن يستقبل النازحين على أمل عودتهم وفق قرار الأمم المتحدة 194، لكن ذلك لم يحصل قط بسبب الرفض الصهيوني، وتلكؤ المجتمع الدولي، وهزيمة الأنظمة العربية، والدعم الغربي المفتوح للكيان الغاصب.
لجنة الهدنة بين لبنان والعدو الإسرائيلي ظلت تجتمع برعاية الأمم المتحدة في الناقورة، للبحث في مسائل حدودية كلما حصل تسلّل أو اختراق للسيادة، إلى أن وقعت حرب حزيران 1967، واحتلّت إسرائيل على إثرها أراضي عربية جديدة، فنأى لبنان بنفسه عنها، حتى غزاه جيش الاحتلال مرتين، في العامين 1978 و1982، خارقاً قرارات ومواثيق الأمم المتحدة أمام أعين القوات الدولية.
صعود المقاومة
منذ الاحتلال الإسرائيلي للبنان، في العام 1982، ودخول قواته إلى العاصمة بيروت، ظهرت مقاومة لبنانية لم تنتظر تطبيق القرارات الدولية 425 و520، ولا العودة إلى اتفاقية الهدنة، بل باشرت بشن العمليات ضد جنود وضباط الاحتلال.
ومع تصاعد المقاومة وتطور عملياتها النوعية اندحر العدو الإسرائيلي تباعاً عن مساحات واسعة باتّجاه «الشريط الحدودي» الذي شنّ منه عدوانين في تموز 1993 تحت اسم «تصفية الحساب» مع لبنان ومقاومته وفشل فيه، ثمّ كرّره في نيسان 1996 باسم «عناقيد الغضب» فانهزم، ووقّع تفاهماً سُمي بـ«تفاهم نيسان» بإشراف الأمم المتحدة وبرعاية أميركية، اعترافاً بحق المقاومة ضد أي اعتداء إسرائيلي على لبنان.
ومنذ ذلك الحين توالت انتصارات للمقاومة العسكرية، التي نتج عنها تحرير جنوب لبنان في 25 أيار 2000، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي لمدينة الغجر.
الرهان الفاشل
أثبتت التجارب أن الرهان على الأمم المتحدة مصيره الفشل، فهي لم تقم بأي دور لإلزام الكيان الصهيوني بتنفيذ قراراتها، وهذا ما حصل مع الفلسطينيين، كما مع لبنان ودول عربية أخرى احتلّت الدولة العبرية أراضيها.
ولطالما لجأت إسرائيل إلى إقامة مفاوضات مباشرة مع أنظمة عربية، لتحصل على اعتراف بها، وتقيم معها سلاماً وتطبيعاً.
وكان أول خرق اسرائيلي في معاهدة الصلح بين النظام المصري برئاسة أنور السادات ورئيس حكومة العدو مناحيم بيغن بما سُمي «اتفاقية كامب ديفيد»، ولم تكن الأمم المتحدة طرفاً فيها، بل كانت أميركا هي التي تنظّم العملية، لحفظ الأمن الاستراتيجي للكيان الصهيوني.
وقد تمكّنت إسرائيل منذ العام 1991 –بعد حرب الخليج الأولى– من أن تنظّم مؤتمر مدريد للسلام، وتأتي بسوريا والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية إليه، واستطاعت أن تستفرد بكل طرف لتقدّم له التسوية، فكان «اتفاق أوسلو» مع منظمة التحرير في أيلول 1993، ثمّ «اتفاق وادي عربة» مع الأردن وبقيت سوريا خارج أي اتّفاق، لأن قيادتها برئاسة حافظ الأسد اشترطت أن تعود كل الأراضي المحتلة، حتى آخر سنتيمتر.
وعلى مر العقود لم تعترف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالحقوق الفلسطينية المكفولة بقرارات الأمم المتحدة، كما أسقطت مضامين الاتفاقات منذ اغتيال إسحاق رابين في العام 1994، مما يؤكد أن المشروع الصهيوني التوسعي، لا يقيم وزناً لا للأمم المتحدة وقراراتها، ولا للاتفاقات التي تعقد، وكذلك أميركا الراعية للاتفاقات فإنها كانت تتخلّى عن مهامها، وهو ما فعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أسقط كل الاتفاقات والمعاهدات، وأعلن عن مشروعه الخاص، «صفقة القرن»، الذي اعترف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، وبسيادة إسرائيل على الجولان، وعلى بناء المستوطنات، والتنكر لحق عودة الفلسطينيين.
لبنان النموذج
بقي لبنان وحده خارج الاتفاقات مع العدو الإسرائيلي، الذي حاول بعد اجتياح بيروت عام 1982، فرض سلطة سياسية تابعة له بمجيء بشير الجميّل إلى رئاسة الجمهورية، والذي اغتيل ليخلفه شقيقه أمين الذي أراد أن يوقّع سلاماً وصلحاً مع الكيان الصهيوني، بما عُرف بـ«اتفاق 17 أيار» الذي أسقطه المقاومون الوطنيون عام 1984، وأخرجوا العدو الإسرائيلي من المعادلة اللبنانية الداخلية بمساعدة سوريا، التي تولّت رعاية الشأن اللبناني ودعم المقاومة.
وبعد تحرير الجنوب مطلع الألفية الحالية، برز ملف ترسيم الحدود لاستعادة أراضٍ لبنانية متنازع عليها، وخاض ضباط من الجيش اللبناني مفاوضات عبر الأمم المتحدة، تمكّنوا خلالها من استعادة عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي، وحصل تحفّظ لبناني على 13 نقطة موزعة على الحدود مع فلسطين المحتلة، ورُسم خط أزرق تتولّى الأمم المتحدة الإشراف عليه، فيما يقف الجيش اللبناني بالمرصاد عند محاولة العدو خرقه، كما حصل في العديسة ومناطق أخرى خلال العقدين الماضيين.
ترسيم الحدود البحرية
مع اكتشاف وجود نفط في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بدأ لبنان يبحث مع شركات التنقيب عن أماكن وجود تلك الثروات، لاسيما بعد ظهور كميات هائلة من الغاز قبالة سواحل فلسطين المحتلة.
لتكشف شركة «إنجي» النرويجية لاحقاً عن وجود نفط وغاز في حوالي عشرة بلوكات في المياه الإقليمية اللبنانية، تمتد من الشمال إلى الجنوب، وأن ثلاثة منها وهي البلوكات 8 و9 و10 المحاذية لفلسطين المحتلة، تحوي على مواد نفطية تقدّر بمئات مليارات الدولارات، وهو ما استوجب تحريك ملف ترسيم الحدود مجدداً.
بدأ الاتصال أولاً بقبرص التي تحد مياهها، مياه لبنان الإقليمية، قبل أن يتوجّه لبنان إلى محاولة ترسيم حدوده البحرية جنوباً، بعد اكتشاف وجود موارد بترولية لديه في العام 2008، فبدأ الخلاف مع الكيان الصهيوني في العام 2009، تحديداً حول نقطة الترسيم التي تريدها إسرائيل من «ب–1»، ولبنان من النقطة «ب–2»، ليتبيّن أن في النقطتين يخسر لبنان مساحات واسعة من مياهه كما من ثرواته.
بناء عليه، قام خبراء بالبحث في الخرائط ليتبيّن أنه تم ترسيم الحدود مع قبرص من «النقطة 23»، فعاد لبنان إليها كنقطة انطلاق لترسيم سائر الحدود البحرية، رافضاً التراجع عنها بأي شكل من الأشكال، حتى جاء الموفد الأميركي فريدريك هوف ورسم خطاً أعطى بموجبه إسرائيل 360 كلم2 ولبنان 500 كلم2، على أن يبقى الخلاف محصوراً ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة، فهدّدت المقاومة حينها، بأن أي تنقيب إسرائيلي في الأراضي المتنازع عليها سيواجه بالقصف، مع رفض لبنان للتنقيب الأميركي، وكذلك لاقتراح هوف بإنشاء صندوق تجمد فيه أموال عائدات النفط والغاز. لكن لبنان الذي ربح أولى جولات التفاوض، أصرّ على حقوقه في مساحات أخرى تبلغ حوالي 1350 كلم2، انطلاقاً من أن صخرة «تخليت» في وسط البحر، والتي يحتلها العدو الإسرائيلي، هي لبنانية.
مبادرة برّي
ومع رفض لبنان للشروط الأميركية، وللتفاوض المباشر مع العدو الإسرائيلي، استلم الرئيس نبيه برّي الملف، وجمع حوله عدداً من الخبراء والمستشارين، وراح يستقبل الموفد الأميركي تلو الآخر، فكان ديفيد ساترفيلد ثم ديفيد شينكر، ومعهما وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو.
وكان رئيس مجلس النواب يتمسّك في كل مرة، بحق لبنان بكامل حقوقه، مع اتّباع آلية للتفاوض غير المباشر، إلى أن استجابت الإدارة الأميركية مؤخراً للطلب اللبناني، بأن تستند المفاوضات إلى آلية تقوم على تفاهم نيسان 1996، والقرار 1701 وتلازم المسارين البرّي والبحري. والبند الأخير أساسي في ملف الترسيم، لأنه سينطلق من نقطة برية وبخط أفقي، لإعادة كل الحقوق اللبنانية، حيث أعلن الرئيس برّي أن لبنان توصّل إلى إطار–اتفاق للتفاوض، وسيمثّل لبنان ممثلون من ضباط الجيش اللبناني حيث يبرز اسم العميد بسام ياسين نائب رئيس الأركان، والعقيد الركن البحري مازن بصبوص والعقيد المهندس شاكر الحاج، في وقت طرحت إسرائيل أن يمثّلها وزير الطاقة يوفال شتاينتز الذي عقد اجتماعاً مع ممثلين عن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزارتي الخارجية والعدل، آملاً منه في تحويل المفاوضات من تقنية كما يريدها لبنان إلى سياسية، واستغلال تطبيع بعض الأنظمة العربية مع العدو الإسرائيلي، وحاجة لبنان إلى بدء التنقيب لحل أزمته المالية والاقتصادي. لكن الجواب الرسمي اللبناني كما الشعبي، هو التعاطي مع الموضوع تقنياً، وإذا حاول المفاوض الإسرائيلي التباطؤ وكسب الوقت، فإن المقاومة جاهزة للتعامل معه.
Leave a Reply