كمال ذبيان – «صدى الوطن»
عام مضى على انطلاق «الحراك الشعبي» في لبنان، استخدم فيه المنتفضون شتى أنواع الأساليب لإسقاط الطبقة السياسية الحاكمة، ومعها النظام السياسي الطائفي، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك.
لم تخلُ وسيلة إلا ولجأ إليها «الثوار»، في التظاهر والاعتصام وقطع الطرقات ومحاصرة واقتحام مقرات رسمية ومنازل مسؤولين ووزراء ونواب، وصولاً إلى استخدام العنف في بعض الأحيان، لكن أركان الحكم ظلوا في مواقعهم لا يتزحزحون، حتى استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة، لم تكن نتيجة ضغط الشارع، بل لأسباب أخرى، لعل أبرزها ضغوط السعودية التي لا تريد حكومة فيها «حزب الله».
عودة الحريري
بعد عام على خروج المواطنين الغاضبين إلى الشارع رفضاً للوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، وارتفاع نسبة البطالة والفقر، والذي تسبّبت به سياسات مالية واقتصادية رسمتها «الحريرية السياسية» للبنان، عاد سعد الحريري بتكليف من 65 نائباً لرئاسة الحكومة، وكأن شيئاً لم يكن.
ولعل عودة الحريري المرتقبة إلى السراي هي أوضح رسالة توجه إلى «الحراك الشعبي» بأنه فشل تماماً في إحداث أي تغيير في السلطة وأركانها.
سنة مرت وأزمات البلاد مستمرة. فتجربة مع حكومة حسان دياب التي كانت من «لون واحد» بدعم من قوى الأغلبية البرلمانية المتمثلة بحركة «أمل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وحلفائهم، لكنها لم تنجح في معالجة الأزمة المتفاقمة، والتي زاد طينها بلةً وباء كورونا، فتعقد الوضع الاقتصادي والمالي، قبل أن يقع انفجار مرفأ بيروت الكارثي، فزاد من الانهيار وكشف عن عمق الفساد والترهل في إدارات الدولة التي تتّجه نحو الزوال كما أكّد وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان، ولاحقاً الرئيس إيمانويل ماكرون الذي طرح نفسه كمخلّص للبنان بشرط تطبيق الإصلاحات المطلوبة للحصول على الدعم المالي والاقتصادي بموجب مؤتمر «سيدر» الذي لازال حبراً على ورق.
أسباب فشل الحراك
فشل الحراك وتشتته وعدم تقديمه لأية رؤية إصلاحية واضحة، فضلاً عن اختراقه من قبل مجموعات وأحزاب ذات مآرب خاصة، جعل الطبقة الحاكمة تتشبّث بمواقعها، ليتجرأ الحريري على طرح اسمه مجدداً لرئاسة الحكومة ليعود لبنان إلى المربع صفر، حيث ظهرت الخلافات على الحصص حتى قبل التكليف.
فمَن خرجوا إلى الساحات والشوارع، كانوا مشتتين ولم يجمعهم برنامج أو قيادة موحدة، بذريعة أن الحراك الشعبي كان عفوياً، وهو تبرير مقبول في الأيام الأولى التي انتفض فيها المواطنون ضد فرض رسوم على المكالمات بواسطة تطبيق «واتساب»، أما وأن الاحتجاجات توسّعت وتمدّدت، فكان لا بدّ من تحديد أهداف واضحة لحشد التأييد الشعبي لها، بعيداً عن الشعارات الفضفاضة مثل محاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين و«كلن يعني كلن» واسترداد المال المنهوب، فضلاً عن الشعارات السياسية التي أثارت الشبهات حيال أهداف الحراك ومحركيه، مثل المطالبة بتشكيل حكومة غير سياسية في حين أن مجلس الوزراء مجتمعاً هو السلطة السياسية الفعلية في البلاد بحسب دستور الطائف، الذي لم يطالب المنتفضون بتعديله أو تغييره، مكتفين بشعارات فضفاضة مثل «إسقاط النظام الطائفي».
المحتجون لم يتمكنوا من صوغ برنامج موحّد، لأن ثمة أهداف أخرى لمن نصبوا خيماً في وسط بيروت وطرابلس وحلبا وصيدا وصور والنبطية وبعلبك وزحلة وعاليه وجل الديب والذوق اضافة إلى الساحة المركزية في وسط بيروت وغير ذلك من الأماكن التي شهدت تجمّعات شعبية تحت شعارات مثيرة للانقسام مثل إجراء انتخابات نيابية مبكرة وصولاً إلى المطالبة بنزع سلاح المقاومة وتطبيق القرار 1559، إضافة إلى تحركات أخرى طالبت بالكشف عن الحسابات للمسؤولين، وتغيير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتحميله مسؤولية انهيار سعر صرف الليرة، بعد أن كان يطمئن اللبنانيين على استقرارها وقوتها، ليتبيّن أنه هو وجمعية المصارف قد أغرقوا الدولة في الديون بسبب التساهل في إقراض الخزينة التي كانت أموالها تذهب إلى جيوب المسؤولين دون حسيب ورقيب، وسط غياب مؤسسات الرقابة بدءاً من مجلس النواب إلى ديوان المحاسبة فالقضاء الذي خضع لنفوذ السياسيين، فأمّن مصالحهم. كما أخرجت المصارف عشرات مليارات الدولارات من لبنان مما تسبّب بعجز في الخزينة وانخفاض غير مسبوق في الاحتياط النقدي، حتى عجزت الحكومة عن سداد ديونها، فوصف لبنان بالدولة المهددة بالإفلاس وفق تقارير مالية دولية منها «موديز»، فيما حرم المودعون من سحب أموالهم من المصارف.
كيف توزّع المنتفضون؟
تعدّد الشعارات والمطالب لدى المنتفضين كان انعكاساً لتعدد مشاربهم، فهم توزّعوا على مجموعات يسارية وأخرى حزبية إلى جانب منظمات وقوى من المجتمع المدني، بعضها ممول من الخارج.
الحزب الشيوعي كان على رأس القوى اليسارية المنتفضة، إلى جانب تيارات وتنظيمات أخرى كـ«حركة الشعب» التي أسّسها نجاح واكيم، و«التنظيم الشعبي الناصري» برئاسة النائب أسامة سعد، ومعارضين لنهج قيادة «الحزب السوري القومي الاجتماعي» كـ«حركة النهضة»، إلى جانب آخرين. وقد توزّع هؤلاء على غالبية المناطق اللبنانية، فكانوا في ساحة رياض الصلح في بيروت، ثمّ في صيدا وصور والنبطية وعاليه وبعلبك وحاصبيا.
في موازاة هؤلاء، تحرّك مناصرو «القوات اللبنانية» و«الكتائب» دون أعلام حزبية، في ساحل المتن الشمالي وفرن الشباك، للسيطرة على الساحة المسيحية، وإضعاف عهد الرئيس ميشال عون، وتحطيم صورته في الشارع، وهذا أدّى إلى حصول صدامات مع «التيار الوطني الحر» الذي أسّسه عون ويرأسه جبران باسيل.
وتحرّكت أيضاً مجموعات تسمي نفسها من «المجتمع المدني»، وكان لها حضور في ساحة الشهداء، محاولة استعادة مشهد «ثورة الأرز»، التي كانت مدعومة من الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش في العام 2005، والذي أيّد «الثورات الملوّنة» في العالم، وأن هؤلاء سعوا إلى تجديد «ثورة الأرز» ولكن بقيادات جديدة، وقد لقوا دعماً أميركياً باعتراف مسؤولين أميركيين، منهم ديفيد هيل مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط الذي يعرف لبنان جيداً وكان سفيراً لبلاده فيه. وقد خرج هؤلاء بشعارات خارج ما هو مطروح، مثل مكافحة الفساد وإسقاط السلطة الحاكمة، فقاموا بربط الفساد بـ«السلاح غير الشرعي» الذي بزعمهم هو سلاح المقاومة، متهمين «حزب الله» بالتسبّب بكل الكوارث التي أحاقت بلبنان، وذلك في إطار مشروع أميركي–سعودي–إسرائيلي لإسقاط الحزب شعبياً، وتثوير الداخل اللبناني عليه، من خلال عملية «شيطنة» ممنهجة، تشارك فيها وسائل إعلام وشخصيات سياسية بالدعوة إلى نزع السلاح كمدخل لتحقيق الإصلاح.
… بعد عام
بعد عام على ظهور «الحراك الشعبي»، فإن الأوضاع لم تتغيّر، لا بل زادت سوءاً وتعقيداً، وإذا كان المنتفضون لا يتحملون مسؤولية الوضع الراهن، إلا أنهم يتحمّلون مسؤولية فشلهم في تنظيم أنفسهم ووضع برنامج مرحلي لتحقيق المطالب التي نادوا بها، عبر اعتماد استراتيجية موحدة لإسقاط الطبقة الحاكمة.
البعض كان يدعو إلى اعتماد التظاهر السلمي في الشارع كوسيلة ضغط للإطاحة بالسلطة، فيما رأي البعض الآخر اعتماد القوة عبر الاستيلاء على المؤسسات والإدارات الرسمية، أما الذين لا يؤيدون اللجوء إلى العنف، فطالبوا أن يكون التغيير من خلال الانتخابات النيابية، سواء كانت مبكرة أو في موعدها الدستوري، وذلك عبر المراكمة على أخطاء السلطة، وتحقيق أهداف مرحلية مثل تغيير قانون الانتخاب، إلى تركيز حملة إعلامية وسياسية وشعبية ضد الفساد ومرتكبيه في السلطة من خلال فضح ممارساتهم وتعريتهم أمام الرأي العام وصولاً إلى هزيمتهم في الانتخابات.
وبالنظر إلى المجريات، لعل هذا الاتجاه كان الأفضل عبر التغيير الديمقراطي، وليس العنفي الذي قد تستفيد منه السلطة لحماية نفسها، من خلال حرف الحراك الشعبي عن أهدافه المطلبية، والزجّ به في أتون صراع أهلي، كما حصل في العام 1975، عندما التفت السلطة على مطالب عمال غندور ومزارعي التبغ والتنباك وصيادي الأسماك والموظفين والطلاب، وما ورد في البرنامج المرحلي للحركة الوطنية حول الإصلاح السياسي، فأدخل لبنان حرباً أهلية، جرى إقحام السلاح الفلسطيني فيها. وهذا بالضبط ما تفعله قوى حالية ناشطة على خط الحراك، للتصويب على سلاح المقاومة، وليس السلطة الفاسدة، التي حاول مَن فيها أن يحرف الحراك نحو انقسام طائفي، كما حصل في صدامات عدة بين أنصار «تيار المستقبل» وبين «الثنائي الشيعي» (أمل وحزب الله)، وما حاولت «القوات اللبنانية» أن تقوم به في المناطق المسيحية.
إن الحراك الشعبي، بعد عام من انطلاقته، تمكّن من إحداث اختراق محدود عبر هزّ السلطة الحاكمة دون أن يسقطها، لكنه فشل في تقديم البديل…
Leave a Reply