وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
البلد الذي احتضن في يوم من أيام الكرامة العربية المهدورة بـ«قمة اللاءات الثلاث»، «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض»، يسير هذه الأيام بخطى حثيثة نحو التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي لطالما كانت العدو الاستراتيجي للسودان.
فالخرطوم كغيرها من العواصم العربية التي طبعت أو تستعد للتطبيع مع إسرائيل، كانت قد بدأت بنسج العلاقات مع الدولة العبرية سراً منذ سنوات، أي منذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير الذي يقبع حالياً في السجن.
ففي آب (أغسطس) الماضي، يوم أعلن المتحدث باسم الخارجية حيدر بدوي عزم بلاده على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ذكّر منتقديه بأن «الاتجاه نحو إقامة علاقات مع إسرائيل ليس جديداً وقد سبقنا إليه وزير خارجية النظام السابق إبراهيم غندور»، لافتاً إلى أن لقاء رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل أشهر، كان «خطوة جريئة فتحت الباب أمام اتصالات يمكن أن تتم بين الطرفين».
وليس معلوماً إلى ماذا استند بدوي حين قال: «تطبيعنا مع إسرائيل سيكون مختلفاً ومن نوع فريد ولا يشبه الدول الأخرى»، في وقت بدأت تتوضح فيه اليوم، الضغوط التي تُمارَس على السودان لكي يسلك مسار التطبيع، سواء بالترغيب أو الترهيب.
قوبلت تصريحات بدوي –يومذاك– والتي جاءت بعد خمسة أيام من التطبيع الإماراتي، بموجة من الاستهجان والنفي في الداخل السوداني مقابل ترحيب نتنياهو.
فقد أعلنت الخارجية السودانية حينها، أن تلك التصريحات تحتاج إلى توضيح، وكذلك أصدر العديد من القوى السودانية بيانات منددة، من بينها «حزب الأمة» بقيادة الصادق المهدي الذي رفض الأمر بشدة، معتبراً أنه مشروط بتسوية شاملة وعادلة.
وكذلك فعل رئيس «هيئة علماء السودان» الذي أكد مناصرة الشعب السوداني للقضية الفلسطينية.
تطبيع الإمارات والبحرين أعطى دفعاً قوياً للسودان للمضي في خطواته التطبيعية، وهو الذي يعيش فترة انتقالية بدأت في 21 آب (أغسطس) 2019، وُيفترض أن تستمر 39 شهراً على أن تنتهي بإجراء انتخابات تنبث عنها السلطة الجديدة. أما حالياً فيتقاسم السلطة «مؤقتاً» كل من الجيش وتحالف «إعلان قوى الحرية والتغيير»، قائد الحراك الشعبي.
السودان الذي يتخبط في أزماته ويغرق في ديونه التي وُعد بالإعفاء منها، إلى جانب شطب اسمه من القائمة الأميركية للدول الداعمة للإرهاب، بحسب رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك الذي أكد أن بلاده ستعود بذلك إلى النظام المالي والمصرفي العالمي، في معرض تبريره للتقارب مع إسرائيل، وتصويره على أنه خشبة الخلاص والحل النهائي لكل الأزمات التي يعيشها السودانيون. غير أن قوى «الحرية والتغيير» –الشريك الأساسي في الحكم– نفت وجود ارتباط مباشر بين الخطوة الأميركية ومسار التطبيع.
أول الأثمان
بتغريدة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلت لائحة الدول الراعية للإرهاب من اسم السودان لقاء موافقته على دفع مبلغ 335 مليون دولار كتعويضات لعائلات أميركيين سقطوا ضحايا للإرهاب، إلى جانب وعد تلقته الخرطوم بإعفائها من الديون والتي وصلت إلى أكثر من 60 مليار دولار.
وما التعويضات التي وافقت الخرطوم على سدادها إلا أول الأثمان التي ستدفعها السودان على مسار التطبيع.
وسائل الإعلام الإسرائيلية، استبقت موقف ترامب وروّج له قبل إعلانه رسمياً، من خلال تسريبات إعلامية مكثفة خلال الفترة الماضية، وقالت إنه يعني اقتراب التطبيع مع الخرطوم. كما برزت أصوات من داخل المجلس العسكري الانتقالي لتلاقي تلك الإشارات، على اعتبار أن الأمر يتعلق بمصلحة البلاد العليا بعيداً عن العاطفة.
مقايضة غير مضمونة النتائج
أسئلة عديدة تطرح نفسها هنا، فما الذي يدفع بلداً مثل السودان إلى اللهاث خلف الصلح مع إسرائيل وهو البلد الذي لا يمتلك حدوداً معها ولم يدخل يوماً في حرب أو مواجهة معها، فما هي الدوافع والأثمان التي قد تجنيها الخرطوم من ذلك؟ وهل تمثل هذه الخطوة ورقة يضيفها ترامب إلى رصيده الانتخابي؟ ولماذا الإصرار الإسرائيلي على ربط خطوة ترامب بمسار التطبيع؟
مصادر مطلعة أكدت لـ«صدى الوطن» أن البرهان يطالب الولايات المتحدة الأميركية بحزمة مساعدات تقترب من 10 مليارات دولار، يمكن تقسيمها على سنوات الفترة الانتقالية، عدا عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب الذي يمثل المطلب الأول والأهم، وكذلك بإعادة الحصانة السيادية لبلاده بتشريع من الكونغرس لإغلاق أبواب المقاضاة في المستقبل، وبإلغاء الديون، وكل ذلك يبدو أنه مربوط ومشروط أميركياً بإبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل، فالسخاء الأميركي ثمنه يجب أن يكون مقبوضاً سلفاً، خاصة تحت إدارة ترامب.
موقف النخب السودانية
برز إلى السطح في االآونة الأخيرة خلاف في أوساط النخب السودانية بشأن مسألة التطبيع مع إسرائيل، وهو خلاف قديم جديد عاد مع الحديث عن موجة التطبيع الحالية التي يشهدها العالم العربي، والتي يُتوقع أن يكون السودان الرقم التالي فيها.
فلطالما كان موقف غالبية السودانيين واضحاً الى جانب حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وهو ينظر اليها كقضية تحرر وطني ضد الإمبريالية العالمية (الجزء اليساري منه)، على أن نظرته الى إسرائيل تتلخص في أنها دولة زرعتها الرأسمالية في جسد المنطقة لتفتيتها وزعزعة أمنها.
لكن في مقابل هذا الرأي، ظهر توجه يرى في القضية الفلسطينية فاتورة مكلفة يدفعها الشعب السوداني وتمنع عنه التمويل والاستثمارات الأجنبية، وبالتالي العيش الرغيد الذي تسعى إليه كل الشعوب، حتى وصل الأمر إلى أن بعض النواب المحسوبين على «حزب المؤتمر الوطني» نادوا علناً بالتطبيع مع إسرائيل طمعاً برضا الولايات المتحدة، وذلك في فترة اشتداد الأزمة الاقتصادية.
في المقابل، وصف سياسيون رافضون للتطبيع، التعامل مع إسرائيل ووصفوه بـ«الخيانة»، ومن أبرزهم رئيس الوزراء السابق ورئيس «حزب الأمة» الصادق المهدي الذي قال إن العلاقة مع إسرائيل خيانة وطنية وإسلامية.
ويرى مراقبون أن التطبيع تحت رعاية الولايات المتحدة لن يحقق للبرهان ما يرجوه ولا للسودان، وأن ما تقوم به إدارة ترامب ما هو إلا مناورة في ربع الساعة الأخير من سباق الرئاسة الأميركية. فالتطبيع لا علاقة له بالسلام، والابتزاز الذي تمارسه واشنطن بحق الخرطوم وربط رفع اسمها من قائمة الإرهاب بالتطبيع لا يتماشيان مع مرحلة ما بعد الثورة، بحسب ما تراه شريحة كبيرة من السودانيين.
تمهيد الأرضية
يقول أنصار التطبيع إن المساعدات والهبات والاستثمارات الدولية ستتدفق على البلاد فور الإعلان عن الاتفاق مع تل أبيب، حتى أن البرهان نفسه كان قد أكد بعد لقائه نتنياهو أنه سوف يطرق كل السبل من أجل رفاهية شعبه.
وفي إطار التمهيد وتهيئة الأرضية لاتفاقية التطبيع الوشيكة، يستعد أنصار التطبيع للقيام بخطوات دعائية عديدة بهدف حشد الدعم الشعبي، من بينها تشكيل وفد من 48 شخصية لزيارة إسرائيل، برئاسة نائب سابق كان على رأس الداعين في المجلس الوطني للتطبيع، وقد أكد بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية الخبر.
مصالح إسرائيلية
صحيح أن السودان لا يملك اقتصاداً قوياً، لكنه يتمتع بموقع جغرافي مهم في أفريقيا، لاسيما ميناء «بورتسودان» المطلّ على البحر الأحمر، والذي تتطلع إليه تل أبيب كموطئ قدم استراتيجي.
كما أن الخرطوم تمثل في الوجدان العربي، عاصمة اللاءت الثلاث «لا صلح لا اعتراف لا تفاوض» التي أُطلقت في القمة العربية عام 1967، وتطبيعها مع إسرائيل سيمثل انتصاراً معنوياً لدولة الاحتلال على عكس التطبيع مع الإمارات والبحرين.
وقد ظهرت أصوات من الداخل السوداني نفسه تدعم التقارب مع إسرائيل، من باب تحقيق «المصالح المشتركة» أسوة بالدول العربية والأفريقية. فالسودان، كما يرى هؤلاء، هو في أمس الحاجة لإنعاش اقتصاده حتى وإن كان على حساب القضية الفلسطينية.
هذا التيار يرى أن مصلحة السودان تأتي أولاً، وأن خلق علاقات دبلوماسية مع تل أبيب يجب فصله عن مسار السلام الفلسطيني.
ويوم الأربعاء الماضي، شارك مئات الآلاف في مسيرات احتجاجية في العاصمة السودانية الخرطوم للمطالبة بتصحيح «مسار الثورة» السودانية، حيث رفع المتظاهرون صوراً لضحايا الاحتجاجات السابقة، ولافتات تطالب بتحقيق العدالة والسلام.
ولخّص المتظاهرون في إحدى اللافتات مطالبهم بأنها السلام والعدالة، والإصلاحات الاقتصادية، وتعيين حكام ولايات من المدنيين، من دون التطرق من قريب أو بعيد الى مسألة التطبيع مع إسرائيل، وهو ما اعتبره المراقبون محاولة لمصادرة الشارع السوداني في الوقت الذي تتوالى فيه التقارير عن الاتفاق مع إسرائيل.
قريباً جداً
بات واضحاً، وبما لا يقبل الشك، أن السودان هو الهدف التالي على مسار تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وفي وقت قصير جداً، لكنه –أي التطبيع– رغم ما يحمله من آمال وأوهام لمؤيديه وأولهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، فإنه لا يخلو من خطر وشيك يحدق بالفريق الانتقالي وبالعملية التي يقودها، من أجل العبور بالبلاد إلى نظام يوافق تطلعات الشباب الذين قاموا بالثورة وأسقطوا حكم البشير.
وإذا كان التطبيع –بحسب البعض– يضع، حمدوك والعملية الانتقالية برمتها، في مهب الريح، فإنه بالنسبة للمراهنين على واشنطن وأموال الخليج فرصة لتثبيت أقدامهم في الحكم.
Leave a Reply