كمال ذبيان – «صدى الوطن»
رفع العماد ميشال عون، شعاراً سياسياً، هو «الإصلاح والتغيير»، أطلقه على تكتّله النيابي، بعد عودته إلى لبنان في ربيع 2005، واكتساحه الانتخابات النيابية بحصوله على نحو 70 بالمئة من أصوات المسيحيين، مرسخاً نفسه في صلب المعادلة الداخلية، وإن تم إقصاؤه عن الحكومة حينها، قبل أن يعقد التفاهم الشهير مع «حزب الله» الذي وجد فيه المرشّح الأنسب لرئاسة الجمهورية، لحماية المقاومة داخلياً من قوى «14 آذار»، المتماهية مع المشروع الأميركي–الإسرائيلي لنزع سلاحها.
وإذا كان عون قد نجح بالوصول إلى سدة الرئاسة بتحالفه مع «حزب الله»، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق أي تقدم يذكر في ملف مكافحة الفساد.
في السلطة
منذ «تفاهم مار مخايل» في 6 شباط 2006، و«اتفاق الدوحة» بعد أحداث 7 أيار 2008، دخل «تكتل الإصلاح والتغيير» في الحكومة رافعاً شعار محاربة الفساد حيث تحرك التكتل بجدية واضحة على هذا المسار، مثل اقتراح عون –النائب حينها– إجراء تشريح مالي عام 2009، ثمّ أصدر «الإبراء المستحيل» الذي فنّد فساد السياسات المالية والاقتصادية خلال المرحلة الممتدة من 1992 وحتى 2005، في إدانة صريحة لـ«الحريرية السياسية» التي راكمت الدين العام وقيدت البلاد باقتصاد ريعي قائم على الفوائد والخدمات المصرفية، بدلاً من الاستثمار في القطاعات المنتجة.
وكان العماد عون، من أشد منتقدي السياسة التي انتهجها الرئيس رفيق الحريري منذ وصوله إلى السلطة في تسعينيات القرن الماضي، والتي لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الكوارث المالية والاقتصادية، باستثناء مرحلة ما بعد انتخاب العماد إميل لحود في نهاية 1998، وتولي سليم الحص رئاسة الحكومة التي حاولت تصحيح النهج المالي والاقتصادي، لكن عمرها القصير منعها من إحداث تغيير فعلي لاسيما بعد عودة الحريري الكاسحة إلى السراي في انتخابات العام 2000.
الإبراء المستحيل
في خضم التصعيد «العوني» ضد «الحريرية السايسية»، صدر «الإبراء المستحيل» الذي فنّد الإنفاق المالي في المرحلة الحريرية، وكيف هُدرت الأموال، ونُهب بعضها، وبدأ صراع بين التيارين السياسيين «الوطني الحر» برئاسة عون و«المستقبل» برئاسة سعد الحريري، امتد إلى السياسة، ولم تنفع المصالحة السعودية–السورية المؤقتة، والزيارات إلى دمشق التي قام بها الحريري ووليد جنبلاط، كما عون نفسه، ولقاءاتهم مع الرئيس بشار الأسد، في تخفيف الاحتقان السياسي، بعد خلط الأوراق، وتعليق العمل في ما كان يسمّى «8 آذار» و«14 آذار».
تغيّرت العناوين السياسية، والتحالفات، إلى أن أطاح فريق حركة «أمل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وحلفاؤهم في الحكومة، بالرئيس سعد الحريري باستقالة «الثلث الضامن»، بينما كان زعيم «المستقبل» في البيت الأبيض يلتقي الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مطلع 2011.
كان «الربيع العربي» قد انطلق من تونس وبدأ بالهبوب على مصر وبلدان أخرى، وقد رأى المناهضون للحريرية، بأن الفرصة مناسبة، لتغيير سلوك الحكم، فتمّ رفع «الإبراء المستحيل» بوجه وريث النفوذ السعودي في لبنان، لكن البديل الذي اختاره هذا الفريق، وهو الرئيس نجيب ميقاتي، لم يكن موفقاً، فقد سار الأخير بنفس النهج الاقتصادي كما مضى قدماً بتمويل المحكمة الدولية رافضاً محاكمة شهود الزور في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فضلاً عن تمسكه باللواء أشرف ريفي كمدير عام لقوى الأمن الداخلي.
فرغم غياب الحريري عن السراي، استمرت «الحريرية السياسية» في السلطة والأداء، وهو ما تسبّب بنكسة لقوى «8 آذار»، التي كانت استمالت رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» إليها في ضربة جديدة لتحالف «14 آذار» قبل أن يغير موقفه لاحقاً مع اندلاع الأزمة في سوريا، والتي تدخل فيها جنبلاط بإعلان دعمه لما سمي «ثورة» للإطاحة بالرئيس بشار الأسد، الذي أيّده «حزب الله» وحلفاء له، فاختلطت الأوراق مجدداً.
التسوية الرئاسية
ومع إسقاط الحريري من رئاسة الحكومة، وفشل تجربة ميقاتي، وتعثّر حكومة الرئيس تمام سلام، التي تشكّلت في إطار «ربط النزاع» بين الحريري و«حزب الله» الذي انخرط في الحرب السورية لمنع تمدّد الجماعات الإرهابية التي وصلت إلى عرسال وجرودها، كما إلى بعض مناطق الشمال.
مع تطورات الحرب في سوريا، لم يكن أمام الحريري الذي غادر لبنان، إلا أن يفتّش عن حلّ يعود به إلى رئاسة الحكومة، وقد غاب عنها نحو سبع سنوات، دون أن يسقط الرئيس الأسد كما كان يراهن مع جنبلاط وزعيم «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
اضطرّ الحريري إلى عقد تسوية رئاسية مع العماد عون، أوصلت الأخير إلى رئاسة الجمهورية، بدعم من «حزب الله» الذي رفض أي بديل لعون طوال مدة عامين ونصف بقي فيها كرسي الرئاسة شاغراً، حرصاً من الحزب على وصول حليف موثوق للمقاومة، مثل الرئيس لحود، وليس ميشال سليمان الذي انقلب على المقاومة وحلفائها بعد وصوله إلى قصر بعبدا بموجب «اتفاق الدوحة»، ظناً منه أن هذا المحور انتهى، قبل أن يتبيّن أن حساباته خاطئة، كما حصل مع الكثير من المسؤولين اللبنانيين والعرب والأجانب.
حصلت التسوية الرئاسية، ووضع عون «الإبراء المستحيل» جانباً، لفتح صفحة جديدة مع الحريري، علّه يعرف أين صرفت أموال الدولة وقد بدا أن خللاً مالياً متفاقماً بدأ يصيب خزينة الدولة.
سعى عون إلى أن يغيّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لكن الحريري حماه، واعتبره خطاً أحمر، وما هي إلا أشهر حتى بدأ التعثّر المالي، فلجأ سلامة إلى ما سماها الهندسات المالية، بإعطاء فوائد عالية للمصارف، لتمويل خزينة الدولة، وموازنتها، دون الإنفاق على مشاريع استثمارية، بل على تمويل الكهرباء التي تخسر سنوياً 2 مليار دولار، وخدمة الدين العام البالغة 5,5 مليار دولار عام 2019، والرواتب والأجور والتقاعد والتعويضات للقطاع العام، وهي نفقات لامست نحو 7 مليار دولار، مما أوصل الدولة إلى العجز عن تسديد ديونها.
إذ أن ملامح الانهيار الذي يعيشه لبنان اليوم، بدأت منذ سنوات، وقد قامت المصارف مع رجال مال وأعمال وسياسيين، بتهريب الأموال إلى الخارج، تحديداً منذ العام 2017، وهو ما اعترف به سلامة نفسه، الذي قام بتقديم قروض لمصارف متعثّرة، أو أخرى لزيادة رساميلها، بفوائد متدنية، لتعود هذه المصارف، وتُقرض الدولة بسندات خزينة بفوائد عالية، فتجني أرباحاً، قدّرها خبراء ماليون بنحو 22 مليار دولار.
وخلال هذه الفترة التي كان فيها الحريري رئيساً للحكومة، لم يتقدّم الأخير لتصحيح الخلل المالي وتحقيق الاصلاح الذي بات مطلباً دولياً لمساعدة لبنان، بل ذهب إلى مؤتمر «سيدر» لمزيد من الديون، كما كان يفعل والده للحصول على قروض ميسرة، منذ أن انعقد أول مؤتمر للمانحين في واشنطن، باسم «أصدقاء لبنان» عام 1997، والذي تبعته ثلاثة مؤتمرات مماثلة في باريس، دون حصول أي تغيير في الأداء المالي، باستثناء مزيد من الدين العام وخدمته، وسط استمرار الفساد والهدر والصفقات المشبوهة.
التدقيق الجنائي المالي
انكشفت خزينة الدولة على أنها مفلسة، بعد أن باتت سلّة الرسوم والضرائب الأعلى بين الدول، فيما تفتقد البلاد إلى الحد الأدنى من الخدمات العامة والبنى تحتية.
واتخذت الأمور منعطفاً سريعاً نحو الانهيار بعدما قرّرت حكومة الحريري فرض رسم على استخدام تطبيق «واتساب» بـ6 دولارات شهرياً، فهبّ الشارع غاضباً تحت ما سمي بـ«الحراك الشعبي» الذي فشل في إحداث أي ضغط فعلي للتغيير، باستثناء استقالة الحريري التي لم تكن سوى خطوة مطلوبة منه سعودياً منذ أن تم استدعاؤه واحتجازه في الرياض.
إثر ذلك، وصل حسان دياب إلى رئاسة الحكومة، لإصلاح الوضع المالي، بعد أن تبيّن أن الخسائر تقدّر بـ81 مليار دولار، وقد أقفلت المصارف أبوابها بوجه المودعين، ولم تتمكّن الحكومة من تسديد دينها مما أدى إلى تخفيض تصنيفها الائتماني من قبل وكالة «موديز» وغيرها، فبدأت الثقة الدولية تتزعزع بلبنان، وبقطاعه المصرفي الذي لجأ إلى «الكابيتال كونترول» غير المقونن، مما زاد من صعوبة تحصيل المودعين لأموالهم، فارتفع سعر صرف الليرة أمام الدولار، ولامس العشرة آلاف ليرة للدولار، وباتت له ثلاثة أسعار، وبدأ الانهيار في المؤسسات والقطاعات تزامناً مع جائحة كورونا التي هزّت الاقتصاد العالمي.
كان لا بدّ لحكومة دياب من التدقيق المالي لمعرفة أين صُرفت الأموال في مؤسسات الدولة، ومَن هرّب الأموال والى أين، فصدر قرار عن مجلس الوزراء في 24 آذار 2020، بالتعاقد مع شركات عالمية متخصصة بالتدقيق المالي، للكشف عن حسابات مصرف لبنان الذي ترتبط به مؤسسات كثيرة، وهو كان يموّل خزينة الدولة، بناء لطلب وزارة المال.
وقد تمّ اختيار شركة «كرول» للقيام بالمهمة، لكن حركة «أمل» اعترضت عليها، لأن لها فرعاً في الكيان الصهيوني، وأيّدها «حزب الله»، فتمّ الانتقال إلى شركة أخرى ووقع الاختيار على «ألفاريز ومارسال»، بعد أن صدر قانون في مجلس النواب خلال نيسان الماضي، يؤيّد التدقيق، لكنه كان مفخّخاً، ببند الالتزام بقانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف.
وبعد التعاقد مع الشركة في مطلع أيلول، باشرت «ألفاريز ومارسال» مهامها، لكنها لم تتمكّن من الحصول على المعلومات المطلوبة من مصرف لبنان، بالرغم من أن هيئة الاستشارات في وزارة العدل، أعطت رأيها بأن ذلك لا يتعارض مع السرية المصرفية أو قانون النقد والتسليف.
لكن المعترضين على كشف المستور حول الإنفاق، وهم «كارتل» المصارف والسياسيون والأحزاب، المغطّى من حاكم مصرف لبنان، المستمر في منصبه منذ 27 عاماً، أصروا على التلطي خلف هذه الذريعة، حتى أن النائب «القواتي» جورج عدوان صوّل باتّجاه كل من برّي والحريري وجنبلاط، بأنّهم وراء تعطيل عمل لجنة «ألفاريز» التي أوقفت تعاقدها في 20 تشرين الثاني الجاري، وتخلّت عن مهمتها، دون أن تطلب مالاً.
وأكّدت وزيرة العدل ماري كلود نجم، بأن اللجنة تلقّت تهديدات فتركت لبنان دون تدقيق، ومعرفة أين ذهبت أموال اللبنانيين، لاسيما المودعين منهم فباشرت كتل نيابية بتقديم اقتراحات قوانين لتسهيل أعمال التدقيق وتوجه الرئيس عون بكتاب إلى مجلس النواب عبر رئيسه بري للتعاون مع السلطة الإجرائية لتحقيق التدقيق المالي الذي يعد المدخل الوحيد للإصلاح وقد ورد في المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس مانويل ماكرون.
أصيب رئيس الجمهورية بنكسة جديدة، وهو الذي يرغب بأن ينهي عهده بتحقيق إصلاح فعلي، لكن «مافيا» الفساد و«قواعد اللعبة» كانت أقوى منه مرة أخرى، فهربت لجنة التدقيق التي طالبها الرئيس عبر وزير المال غازي وزني بالاستمرار بمهامها حتى شباط المقبل، لكنها اشترطت تزويدها بالمعلومات وإلا فلا معنى للتدقيق أصلاً.
نظرياً، الكرة الآن في مرمى مجلس النواب الذي تقع عليه سن التشريعات اللازمة لإجراء تدقيق فعلي غير مرغوب به من العديد من القوى النافذة في لبنان. وجميعنا يدرك أيضاً أن التركيبة السياسية اللبنانية عصية على الإصلاح والتغيير وذلك لغياب مبدأي المحاسبة وفصل السلطات كما أثبتت الوقائع والتجارب السابقة.
Leave a Reply