مريم شهاب
«يا سنين اللي رح ترجعيلي، ارجعيلي شي مرّة ارجعيلي». مثل الكثيرين، أنت وأنا وملايين البشر، حين يضعون رؤوسهم على الوسادة كل ليلة، يحلمون ويتمنون أن ترجع بهم السنون ولو مرة، ويحلمون بالبساط السحري الذي يحملهم من بيوتهم وأعمالهم وعوائلهم، إلى مكان ناءٍ بعيد، خال من الأوبئة والسياسة، والمسؤوليّات والرتابة التي تلتهم العمر بلا متعة ولا بهجة.
في روايتها Des Vies en Mieux أو «حياة أفضل»، تخبرنا الروائية الفرنسية آنّا غافالدا عن الشاب «يان». واحد من هؤلاء غير المرتاحين في حياتهم والساعين للهروب من الروتين القاتل الذي يعيشونه بألم يوماً بعد يوم. هو مهندس معماري لكنه يعمل بائعاً للأجهزة المنزلية في متجرٍ كبير. متزوج من «ميلاني»، وليس لديه أولاد.
وكما خبرنا في وطننا الجديد، يمكن أن تعيش سنوات طويلة جاراً لبشرٍ آخرين دون أن تعرف أسماءهم أو تزورهم في بيوتهم.
ذات مساء، يتعرف «يان» على «سلومون»، جاره الذي يعيش مع زوجته وطفلين في الطابق الأعلى من المبنى. شقة تنبعث منها صرخات الأطفال والموسيقى والمناوشات العائلية، بعكس شقته هو وميلاني حيث الصمت الدائم والسكون المطبق.
دخل «يان» شقة جاره لمساعدته في نقل قطعة أثاث. فدعاه الجار لشرب كأسٍ سوياً، فوافق. كانت «ميلاني» مسافرة، وهي فرصة لتغيير «المونوتون» قبل عودتها.
لاحظ «يان» أن عائلة «سلومون» تترك بقيّة غرف الشقة وتقضي معظم وقتها في المطبخ.
حول طاولة الطعام، جلس «يان» يستمع إلى قصة تعارف الزوجين والحب الذي أنقذهما من اليأس فيما بعد.
قارن في قرارة نفسه، بين سكون أيامه وبين صخب شقة جاره. وما أن ذهب الولدان وأمهما إلى النوم، واصل الرجلان الكلام حتى ساعة متأخرة من الليل، وشربا بدل الكأس قنينتين من النبيذ الفاخر.
تحدث «سلومون» للشاب عن أصل النبيذ الذي يشربانه، وأنه أتى من مزرعة عنب يملكها زوجان آخران. وأن صاحبها ينوي بيعها لأن زوجته أصابها مرض خطير ولم تعد قادرة على مساعدته.
عاد «يان» إلى شقّته وكلام جاره ظل يرن في أذنيه: «لم أسمعك طوال الليل تأتي على ذكر شريكة حياتك».
نام على مخدة الحلم وقد اتخذ قراره الحاسم بالرحيل صباحاً. أراد أن يختفي من حياته المملة.
ولأن ميلاني كانت تذكره دوماً بأخطائه الإملائية، قرّر أن يترك لها رسالة وداع صوتية ذكر فيها ثلاثة أسباب دفعته لطلب الانفصال عنها:
الأول، أنها كانت تجبره دائماً على مغادرة صالة السينما فور انتهاء الفيلم، بينما هو يحب قراءة أسماء الممثلين والفنيين وسائر العناوين.
والسبب الثاني هو «الريجيم» الذي تتبعه دوماً، فهي تمتنع عن طلب الحلوى بعد تناول الطعام في المطعم، ولكنها –بدون استئذان– تمد يدها وتستولي على ألذ قطعة من طبق الحلوى الخاص به. أما السبب الثالث، وهو الأهم، فهو أنها تعتبر نفسها في مرتبة أعلى وأرقى من والدته، وهذا كان يحز في نفسه حتى القهر، لعلمه بأن أمه كانت تحرص على تصفيف شعرها كلما جاءت لزيارتهما، فقط لمجرد أن تكون لائقة بعيني «ميلاني»، وهو أمر لم تكن تفعله حتى لزوجها، أي والده.
استيقظ «يان» صباحاً وذهب إلى صاحب مزرعة الأعناب ليخبره بأنه جاء من طرف «سلومون» لكي يساعده في العمل بدلاً من زوجته المريضة.
Leave a Reply