كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في العامين الأخيرين من ولاية كل رئيس جمهورية في لبنان، يبدأ الحديث حول قوة العهد وضعفه، وهل يسعى إلى التمديد أو التجديد، كما ترتفع أصوات تدعو إلى استقالة الرئيس أو إسقاطه، في ظل أزمات داخلية أو مشاريع خارجية، لاسيما وأن رؤساء الجمهورية –منذ تأسيس لبنان– يصلون إلى السلطة بقرار خارجي، سواء عربي أو إقليمي أو دولي.
عهود رئاسية
منذ الاستقلال، لم يخلُ عهد رئاسي في لبنان، من أزمة نهاية الولاية، إذ أن أول رئيس للبلاد بشارة الخوري، سعى إلى التجديد لنفسه، فأجرى انتخابات نيابية في 25 أيار 1947، جاءت لصالحه، بفوز اللوائح التي دعمها وارتكز عليها، فجدد له لمدة ست سنوات إضافية، في نهاية رئاسته الدستورية عام 1949، وهذا ما حصل، لكن الخوري وفي منتصف الولاية الثانية، سقط في «ثورة شعبية» قادتها المعارضة باسم «الجبهة الاشتراكية الوطنية» التي فرضت عليه الاستقالة لينتهي عهده في 23 أيلول 1952.
أما الرئيس الثاني، كميل شمعون (1952–1958)، الذي كان مرشّح المعارضة، فسعى أيضاً إلى التجديد، لكن ثورة مسلّحة واجهته لارتباطه بمشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور للشرق الأوسط، لمحاربة التمدد الشيوعي والمد الوحدوي العربي الذي كان يمثّله الرئيس جمال عبدالناصر. وبعد أن أجرى انتخابات نيابية حصد فيها الأكثرية، لم يتمكّن شمعون من أن يجدّد رئاسته، لأن جبهة معارضة واسعة وقفت ضده، بمساندة عبدالناصر، ولم ينجح الأميركيون بأن ينقذوا حليفهم شمعون، رغم إنزال قوات «المارينز» ورسو الأسطول البحري الأميركي على الشواطئ اللبنانية، فانتهى عهده بأن رُفع الغطاء الأميركي عنه، وحصلت تسوية أميركية–مصرية، أتت بقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية (1958–1964).
رئيس الجمهورية الثالث استقال أثناء ولايته احتجاجاً على فساد الطبقة السياسية، والتي أسمى زعماءها بـ«أكلة الجبنة» بعد وقوفهم ضد الإصلاحات التي قام بها، لكن تأييد الجيش لشهاب، مع نفوذ المكتب الثاني (المخابرات)، أعاده عن استقالته لكنه رفض التجديد لنفسه، مفضلاً أن يرثه شخص يكمل نهجه الإصلاحي، فوقع الاختيار على شارل حلو (1964–1970)، المدعوم من تكتل نيابي سمي «النهج»، لكن الحرب العربية–الإسرائيلية في 5 حزيران 1967، وهزيمة الجيوش العربية فيها، وتوسع الاحتلال الإسرائيلي، أدخل لبنان في وضع جيو–سياسي جديد، فظهرت المقاومة الفلسطينية، وتغيّر المشهد الداخلي ليتحول لبنان تدريجياً إلى ساحة للصراع.
الحرب الأهلية
انتهى عهد حلو، الذي لم يطرح التمديد لنفسه، وقد لوح بالاستقالة، بعد أن بدأ الفلسطينيون في المخيمات بالتسلّح، وقد تمركز بعضهم في العرقوب، عند الحدود اللبنانية–الفلسطينية، بينما كانت الأزمات الداخلية تتصاعد وصولاً إلى الحرب الأهلية التي اندلعت في عهد الرئيس سليمان فرنجية (1970–1976)، الذي حاولت «الحركة الوطنية» دفعه إلى الاستقالة لكنها لم تنجح سوى في فرض انتخابات رئاسية مبكرة فاز بها إلياس سركيس، من المدرسة الشهابية وبدعم سوري.
الرئيس سركيس (1976–1982) على غرار الرئيسين شهاب وحلو، لوح بالاستقالة أيضاً، بعد تجدّد المعارك العسكرية بين الأطراف المتنازعة خلال الحرب الأهلية، لكن ضغوطاً خارجية فرضت عليه الاستمرار، في وقت كان الإسرائيليون ينسقون مع «الجبهة اللبنانية» التي تضم الأحزاب المسيحية، إلى أن اتفقوا مع قائد «القوات اللبنانية» بشير الجميّل على اجتياح لبنان، وتنصيبه رئيساً للجمهورية، تمهيداً لتوقيع معاهدة سلام مع الكيان الصهيوني. لكن اغتيال الجميل الذي لم يحكم سوى ثلاثة أسابيع، كسر المشروع الإسرائيلي، ولم يتمكّن شقيقه أمين الذي خلفه برئاسة الجمهورية من تنفيذه، بعد صعود المقاومة الوطنية التي أسقطت اتفاق «17 أيار» وفرضت على الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من بيروت ومناطق أخرى، تحت وطأة العمليات الاستشهادية.
وهكذا انتهى حكم «الكتائب» رغم محاولة أمين الجميّل (1982–1988) التمديد لعهده، مستغلاً عدم الاتفاق على مرشح لخلافته، لكن الانتخابات الرئاسية لم تحصل وترك الجميل القصر الرئاسي بعهده حكومة عسكرية ترأسها قائد الجيش العماد ميشال عون.
رؤساء بعد الطائف
بعد اتفاق الطائف الذي مهد لنهاية الحرب الأهلية، تم انتخاب رينيه معوّض رئيساً للبلاد لكنه اغتيل بعد أقل من شهر على بداية عهده، ليخلفه –بعد يومين– الرئيس إلياس الهراوي في 24 نوفمبر 1989.
الهراوي حظي بدعم سوري وسعودي مكنه من تمديد عهده لثلاث سنوات إضافية انتهت في خريف 1998، ليُنتخب بعده، الرئيس إميل لحود الذي حذا حذو الهراوي بالتمديد لثلاث سنوات أيضاً، لكن بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، حاولت قوى «14 آذار» إخراج لحود من القصر الجمهوري بحملة «فلّ»، التي لجمها البطريرك صفير بعد تهديد لحود له باستخدام القوة للدفاع عن قصر بعبدا بوجه المتظاهرين تحت لواء «ثورة الأرز» المدعومة من واشنطن والبطريرك نفسه، الذي كان وراء تشكيل «لقاء قرنة شهوان» الذي شكّل نواة العمل السياسي لإخراج القوات السورية من لبنان، وقد انضمّ إليه الرئيس رفيق الحريري –قبل اغتياله– والزعيم الدرزي وليد جنبلاط بعد مصالحة الجبل.
وقد التقى هؤلاء على رفض التمديد للحود، معولين على صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي شجب تعديل الدستور للتمديد وطالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح «حزب الله»، متسبّباً بانقسام داخلي، دفع لبنان إلى حرب أهلية باردة كادت أن تتحول إلى فتنة داخلية بانفجار صراع مذهبي بين السُّنّة والشيعة.
ورغم الضغوط الهائلة التي مارستها قوى «14 آذار»، ومن وراءها، بعد اغتيال الحريري، لم ينجح «السياديون الجدد» في إسقاط الرئيس لحود الذي صمد بوجههم مكملاً عهده حتى الدقيقة الأخيرة من يوم 23 نوفمبر 2007.
ولاشك أن تمركز لحود في الخط الوطني المقاوم، أثار غضب الإدارة الأميركية التي حاولت تنحيته دون جدوى، كما لم تقبل بأن يخلفه العماد ميشال عون الذي عقد تفاهماً مع «حزب الله» تم اختباره بالحديد والنار في حرب تموز 2006.
إثر الصفعة التي تلقاها المشروع الأميركي بفشل العدوان الإسرائيلي، واستمرار الشغور الرئاسي بعد لحود، والحملة الداخلية على المقاومة، تمكن فريق «8 آذار» إلى قلب المعادلة الداخلية في 7 أيار 2008، فأعاد التوازن بمواجهة «14 آذار» عبر اتفاق الدوحة، لكنه لم يتمكّن من إيصال عون إلى رئاسة الجمهورية، فتم الاتفاق على انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، ليصبح الرئيس الثالث الذي يصل إلى سدة الحكم من المؤسسة العسكرية.
لكن سليمان الذي اصطف مع «14 آذار» غادر بعبدا بانتهاء ولايته في 24 مايو 2014، دون أن يتمكن من التمديد لنفسه، فيما عجز اللبنانيون عن انتخاب خلف له، ليحصل فراغ في الرئاسة الأولى، ملأه مجلس الوزراء دستورياً.
الضغط على عون
بعد عامين ونصف العام من انتهاء ولاية سليمان، لم يتمكن مجلس النواب من الانعقاد لانتخاب رئيس جديد للبلاد، في ظل تمسّك «حزب الله» بترشيح عون وهو ما اضطر سعد الحريري إلى عقد تسوية رئاسية معه أوصلته إلى الحكم في 31 أكتوبر 2016، وذلك بعد أن كان الحريري قد رشح سليمان فرنجية، حليف «حزب الله»، وأيّده في ذلك كل من الرئيس نبيه برّي وجنبلاط، لكن رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع وقف مع عون لقطع الطريق أمام فرنجية الحليف الأساسي لسوريا ورئيسها بشار الأسد.
هكذا انتخب عون كحليف للمقاومة ليبدأ عهداً مليئاً بالمطبات السياسية والاقتصادية، وقد بدأت الضغوط السياسية والشعبية تتزايد لإسقاطه شعبياً مع دخول سنته الخامسة في خضم أزمة مالية ونقدية خانقة وعجز عن تحقيق إصلاحات فعلية في مؤسسات الدولة التي استشرى فيها الفساد وبدأت بالانحلال.
وقد جرى تحريك الشارع في 17 أكتوبر 2019 لتشويه صورة عهد عون الذي يعاقب أميركياً وخليجياً لأنه حليف «حزب الله». حيث دُفع الحريري إلى الاستقالة مرتين بهدف محاصرة العهد وإضعافه تمهيداً لإسقاطه مع حلفائه، من قبل جبهة داخلية جديدة يجري العمل على بلورتها قبل المواجهة الانتخابية المنتظرة عام 2022.
Leave a Reply